للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَسِفْرُ التَّكْوِينِ غَيْرُ مَرْوِيٍّ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنَّهُ كِتَابٌ قَدِيمُ التَّارِيخِ لَهُ قِيمَةٌ لَا تَعْصِمُهُ مِنَ الْخَطَأِ.

(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الشَّأْنِ الرَّفِيعِ وَالْمَجْدِ الْبَدِيعِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَكَ فِي رُؤْيَاكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ)) لِنَفْسِهِ وَيَصْطَفِيكَ عَلَى آلِكَ وَغَيْرِهِمْ فَتَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ (بِفَتْحِ اللَّامِ كَمَا وَصَفَهُ اللهُ فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا) فَالِاجْتِبَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ جَبَيْتَ الشَّيْءَ إِذَا خَلَّصْتَهُ لِنَفْسِكَ، وَالْجِبَايَةُ جَمْعُ الشَّيْءِ النَّافِعِ كَالْمَاءِ فِي الْحَوْضِ وَالْمَالِ لِلسُّلْطَانِ وَلِيِّ الْأَمْرِ (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ أَيْ يُعَلِّمُكَ مِنْ عِلْمِهِ اللَّدُنِّيِّ تَأْوِيلَ الرُّؤَى وَتَعْبِيرَهَا، أَيْ تَفْسِيرَهَا بِالْعِبَارَةِ وَالْإِخْبَارِ بِمَا تَئُولُ إِلَيْهِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ تَأْوِيلُهَا كَمَا سَيَأْتِي حِكَايَةً لِقَوْلِ يُوسُفَ لِأَبِيهِ: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) ١٢: ١٠٠ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ، وَسُمِّيَتِ الرُّؤَى أَحَادِيثَ بِاعْتِبَارِ حِكَايَتِهَا وَالتَّحْدِيثِ بِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ: إِنَّ الرُّؤْيَا حَدِيثُ الْمَلَكِ إِنْ كَانَتْ صَادِقَةً، وَحَدِيثُ الشَّيْطَانِ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ الْوَاقِعَ فَإِنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ، وَكَذَا رُؤْيَا صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ وَرُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ رُؤْيَا لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا يُرَى فِي النَّوْمِ، كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ اسْمٌ لِمَا يُرَى فِي الْيَقَظَةِ، فَهُمَا كَالْقُرْبَةِ وَالْقُرْبَى وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِلتَّمْيِيزِ، وَقَدْ يَسْمَعُ رَائِيهَا أَحَادِيثَ رَجُلٍ يُحَدِّثُهُ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ رُؤْيَاهُ يَكُونُ لِجُمْلَةِ مَا رَآهُ وَسَمِعَهُ لَا لِمَا سَمِعَهُ فِيهَا فَحَسْبٌ، كَمَا يَقُصُّهُ بِحَدِيثِهِ عَلَى مَنْ يَعْبُرُهُ لَهُ، أَيْ يُعَبِّرُ بِهِ مِنْ مَدْلُولِ حَدِيثِهِ اللَّفْظِيِّ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ قَرِيبًا كَرُؤْيَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ وَرُؤْيَا الْمَلِكِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدًا كَتَأْوِيلِ رُؤْيَا يُوسُفَ نَفْسَهُ، وَلَفْظُ الْأَحَادِيثِ اسْمُ جَمْعٍ سَمَاعِيٍّ كَالْأَبَاطِيلِ. وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ ضَرْبٌ مِنْ إِدْرَاكِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ أَحْيَانًا لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِاسْتِعْدَادِهَا الْفِطْرِيِّ، إِمَّا بِعَيْنِهَا وَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِمَّا بِمِثَالٍ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَسَنُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ وَبَيْنَ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، وَرَأْيُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدِيهِمْ فِيهَا فِي خُلَاصَةِ السُّورَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -

وَتَعْلِيمُ اللهِ التَّأْوِيلَ لِيُوسُفَ إِيتَاؤُهُ إِلْهَامًا وَكَشْفًا لِلْمُرَادِ مِنْهَا أَوْ فِرَاسَةً خَاصَّةً فِيهَا، أَوْ عِلْمًا أَعَمَّ مِنْهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي لِصَاحِبَيِ السِّجْنِ: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ٣٧ رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ: تَأْوِيلُ الْعِلْمِ وَالْحُلْمِ وَكَانَ يُوسُفُ مِنْ أَعْبَرِ النَّاسِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ، تَأْوِيلُ أَحَادِيثِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ.

زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ مُقَلِّدُوهُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حُكْمِ التَّشْبِيهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهُوَ يُعَلِّمُكَ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَبَنَى هَذَا عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ دَلَالَةِ الرُّؤْيَا عَلَى الِاجْتِبَاءِ فَقَطْ، وَمَا هَذَا الْفَهْمُ إِلَّا مِنْ تَأْثِيرِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَالَّذِي نَجْزِمُ بِهِ أَنَّ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>