للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السَّلَامُ - فَهِمَ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا فَهْمًا مُجْمَلًا كُلَّ مَا بُشِّرَ بِهِ ابْنُهُ رَائِيهَا، وَأَمَّا كَيْدُ إِخْوَتِهِ لَهُ إِذَا قَصَّهَا عَلَيْهِمْ فَقَدِ اسْتَنْبَطَهُ اسْتِنْبَاطًا مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَعَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ. فَلَمَّا حَذَّرَهُ مِنَ الِاسْتِهْدَافِ لِذَلِكَ بِإِثَارَةِ حَسَدِهِمْ، قَفَّى عَلَيْهِ بِبِشَارَتِهِ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا مِنِ اجْتِبَاءِ رَبِّهِ الْخَاصِّ بِهِ، وَمِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وَهُوَ الَّذِي سَيَكُونُ وَسِيلَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ إِلَى رَفْعِهِ قَدْرَهُ وَعُلُوِّ مَقَامِهِ، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الِاجْتِبَاءِ مَعَهُ فِي الْبِشَارَةِ.

ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ وَهُمْ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ وَذُرِّيَّتُهُمْ (وَأَصْلُ الْآلِ أَهْلٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهِ عَلَى أُهَيْلٍ، وَهُوَ خَاصٌّ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِمَنْ لَهُمْ شَرَفٌ وَخَطَرٌ فِي النَّاسِ كَآلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآلِ الْمَلِكِ، وَيُقَالُ لِغَيْرِهِمْ: أَهْلٌ) بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْبَدْوِ، وَتَبَوُّئِهِمُ الْمَقَامَ الْكَرِيمَ بِمِصْرَ، ثُمَّ بِتَسَلْسُلِ النُّبُوَّةِ فِي أَسْبَاطِهِمْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْعَهْدِ أَوْ مِنْ قَبْلِكَ (إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ) هَذَا بَيَانٌ لِكَلِمَةِ ((أَبَوَيْكَ)) وَهُمَا جَدُّهُ وَجَدُّ أَبِيهِ، وَقِدَمُ الْأَشْرَفِ مِنْهُمَا، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَأْلُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، بَلْ قَالَهَا هُوَ أَيْضًا. وَهَذَا التَّشْبِيهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا كَانَ يَعْلَمُهُ يَعْقُوبُ مِنْ وَعْدِ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ بِاصْطِفَاءِ آلِهِ، وَجَعْلِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَإِنَّمَا عَلِمَ مِنْ رُؤْيَا يُوسُفَ أَنَّهُ

هُوَ حَلْقَةُ السِّلْسِلَةِ النَّبَوِيَّةِ الِاصْطِفَائِيَّةِ بَعْدَهُ مِنْ أَبْنَائِهِ، فَلِهَذَا عَلَّلَ الْبِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْطَفِيهِ حَكِيمٌ بِاصْطِفَائِهِ، وَبِإِعْدَادِ الْأَسْبَابِ وَتَسْخِيرِهَا لَهُ، وَكَانَ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ يَعْقُوبَ بِمَا بَشَّرَ اللهُ بِهِ أَبَوَيْهِ لَهُمَا وَلِذَرِّيَّتِهِمَا، وَبِدَلَالَةِ رُؤْيَا يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ حَلْقَةُ السِّلْسِلَةِ الذَّهَبِيَّةِ لَهُمْ، هُوَ السَّبَبُ كَمَا قُلْنَا لِزِيَادَةِ حُبِّهِ لَهُ وَعَطْفِهِ وَحِرْصِهِ عَلَيْهِ، الَّذِي هَاجَ مَا كَانَ يَحْذَرُهُ إِخْوَتُهُ وَكَيْدُهُمْ لَهُ، وَلِكَوْنِهِ لَمْ يُصَدِّقْ مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَكْلِ الذِّئْبِ لَهُ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ أَمَلُهُ مِنْهُ، بَلْ لَمْ يَنْقُصْ إِيمَانُهُ بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ لَهُ وَلَهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ كَانَ إِجْمَالِيًّا لَا تَفْصِيلِيًّا، وَقَدْ جَاءَتْ قِصَّتُهُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُفَصِّلَةٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ، تَفْصِيلًا هُوَ مِنْ أَبْدَعِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، وَزَادَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي التَّشْبِيهِ إِنْجَاءُ إِبْرَاهِيمَ مِنَ النَّارِ وَإِنْجَاءُ إِسْحَاقَ مِنَ الذَّبْحِ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَ قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ) ٣٧: ١١٢ وَكَوْنُ الْقِصَّةِ كَانَتْ فِي الْحِجَازِ وَهِيَ الْأَصْلُ فِي أَضَاحِي مِنًى هُنَاكَ، وَإِنَّمَا الَّذِي نَشَأَ فِي الْحِجَازِ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>