للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَى قَوْلِهِ (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَفِي بَعْضِهَا عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِاللَّيْلِ عُرَاةً وَأَكْثَرُهَا مُطْلَقَةٌ. وَفِي بَعْضِهَا عَنْهُ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا حَجُّوا فَنَزَلُوا فِي أَدْنَى الْحِلِّ نَزَعُوا ثِيَابَهُمْ وَوَضَعُوا رِدَاءَهُمْ وَدَخَلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ رِدَاءٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ صَدِيقٌ مِنَ الْحُمْسِ فَيُعِيرُهُ ثَوْبَهُ وَيُطْعِمَهُ مِنْ طَعَامِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ ثِيَابَهُمْ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ وَيَدْخُلُونَ، فَإِذَا دَخَلَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ يُضْرَبُ وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ فَنَزَلَتْ. وَعَنْ قَتَادَةَ حِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْ حَيٍّ مِنَ الْيَمَنِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَلْبَسُ ثِيَابَهُ فِي

الطَّوَافِ إِلَّا الْحُمْسِ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَيِّزُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ: يَطُوفُونَ بِثِيَابِهِمْ - وَهَذَا حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ دُونَ الِانْفِرَادِ بِهِ - وَيَأْتُونَ الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ لَا مِنْ بَابِهِ إِذَا كَانُوا مُحْرِمِينَ، وَقَدْ أَبْطَلَ هَذَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢: ١٨٩) وَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (جَبَلُ قُزَحٍ) بِمُزْدَلِفَةَ لَا فِي عَرَفَاتٍ وَيُعَلِّلُونَ هَذَا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَعَرَفَةُ خَارِجُ حَدِّ الْحَرَمِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَلَمَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْفِرُ الْحَجَّاجُ مِنْ بَيْنِهِمَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْهَا إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى الْمَوْقِفِ كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَشُكُّ فِي أَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى عَرَفَةَ فَيَقِفُونَ فِيهَا فَخَابَ ظَنُّهُمْ، وَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتِيَازَهُمْ وَسَنَّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمُ الْمُسَاوَاةَ. وَبَدَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ حَتَّى إِنَّهُ أَبَى أَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ مَكَانًا فِي " مِنًى " يَسْتَظِلُّ فِيهِ مِنَ الشَّمْسِ لَمَّا أَرَادُوا عَمَلَهُ لَهُ. وَقَالَ " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَدْ رُوِيَ مِثْلُهَا فِي نُزُولِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ اللِّبَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مُخْتَصَرًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا نَزَلَتْ مُبْطِلَةً لِتِلْكَ الضَّلَالَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْفَاحِشَةِ، وَمُقَرِّرَةً لِوُجُوبِ اتِّخَاذِ الْمَلَابِسِ لِلسَّتْرِ وَلِزِينَةِ التَّجَمُّلِ وَإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) يُقَالُ فِي هَذَا النِّدَاءِ مَا قُلْنَا فِي مِثْلِهِ قَبْلَهُ وَنَزِيدُ أَنَّهُ يَشْمَلُ النِّسَاءَ بِالتَّبَعِ لِلرِّجَالِ شَرْعًا لَا لُغَةً، وَيَدُلُّ عَلَى بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا مِمَّا أَوْصَى اللهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ وَسَنَعُودُ إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>