الْعَالَمِينَ، وَبِالْقُوَّةِ يُحْفَظُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ هَجَمَاتِ الْمُوَاثِبِينَ وَكَيْدِ الْكَائِدِينَ، فَهَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [٦: ١٥٣] فَحَبْلُ اللهِ هُوَ صِرَاطُهُ وَسَبِيلُهُ، وَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُنَا مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ التَّفَرُّقِ هُوَ السُّبُلُ الَّتِي نُهِيَ عَنِ اتِّبَاعِهَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا ; لِأَنَّهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ مَدَنِيَّةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَفَرَّقُوا بِاتِّبَاعِ السُّبُلِ
غَيْرَ سَبِيلِ اللهِ الَّذِي هُوَ كِتَابُهُ. فَمِنْ تِلْكَ السُّبُلِ الْمُفَرِّقَةِ: إِحْدَاثُ الْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [٦: ١٥٩] وَمِنْهَا عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا مَعَهَا فِيهَا، لِمَا كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مَا كَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ وَحِسَانٌ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَيُهْرِيقَ دَمَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
وَقَدِ اعْتَصَمَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَهْلُ أُورُبَّا بِالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَسَرَى سُمُّ ذَلِكَ إِلَى كَثِيرٍ مِنْ مُتَفَرْنِجَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْمُسْلِمِينَ جِنْسِيَّاتٍ وَطَنِيَّةً لِتَعَذُّرِ الْجِنْسِيَّةِ النَّسَبِيَّةِ، وَيُوجَدُ فِي مِصْرَ مَنْ يَدْعُو إِلَى هَذِهِ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ مُخَادِعِينَ لِلنَّاسِ بِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَنْهَضُونَ بِالْوَطَنِ وَيُعْلُونَ شَأْنَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ حَيَاةَ الْوَطَنِ وَارْتِقَاءَهُ بِاتِّحَادِ كُلِّ الْمُقِيمِينَ فِيهِ عَلَى إِحْيَائِهِ، لَا فِي تَفَرُّقِهِمْ وَوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَّحِدِينَ مِنْهُمْ فِي اللُّغَةِ وَالدِّينِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ هَذَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، لَا مِنْ وَسَائِلِ التَّقَدُّمِ وَالْعُمْرَانِ، فَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِاتِّحَادِ اتِّفَاقِ كُلِّ قَوْمٍ تَضُمُّهُمْ أَرْضٌ وَتَحْكُمُهُمُ الشَّرِيعَةُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ فِيهَا - وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَدْيَانُهُمْ وَأَجْنَاسُهُمْ - وَيَأْمُرُ مَعَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ أَوْسَعَ، وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَقْوَامِ وَالْأَجْنَاسِ، لِتَتَحَقَّقَ بِذَلِكَ الْأُخُوَّةُ فِي اللهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا يُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مِنْ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ
الَّتِي بِهَا قَاسَمَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute