للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جَاءُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَذِّرِينَ لِيَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ الَّذِينَ كَانُوا يُنْفِقُونَ بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ الْجِهَادِ رِيَاءً وَتَقِيَّةً فَيَعُدُّونَ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنَ الْمَغَارِمِ وَهِيَ مَا يَلْزَمُهُ الْمَرْءُ مِمَّا يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَيَلْتَزِمُهُ كُرْهًا أَوْ طَوْعًا لِدَفْعِ مَكْرُوهٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ قَوْمِهِ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ذَاتِيَّةٌ. وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُونَ بِهَذِهِ النَّفَقَةِ جَزَاءً فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ.

وَلِهَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي بِالْمَغْرَمِ أَنَّهُ لَا يَرْجُو ثَوَابًا عِنْدَ اللهِ وَلَا مُجَازَاةً وَإِنَّمَا يُعْطِي مَا يُعْطِي مِنَ الصَّدَقَاتِ كُرْهًا. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ إِنَّمَا يُنْفِقُونَ رِيَاءً اتِّقَاءَ أَنْ يُغْزَوْا وَيُحَارَبُوا وَيُقَاتَلُوا وَيَرَوْنَ نَفَقَاتِهِمْ مَغْرَمًا (قَالَ) وَهُمْ بَنُو أَسَدٍ وَغَطَفَانَ.

(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ) أَيْ يَنْتَظِرُونَ دَوَائِرَ الزَّمَانِ: أَيْ تَصَارِيفَهُ وَنَوَائِبَهُ الَّتِي تَدُورُ بِالنَّاسِ وَتُحِيطُ بِهِمْ بِشُرُورِهَا أَنْ تَنْزِلَ بِكُمْ فَتُبَدِّلَ قُوَّتَكُمْ ضَعْفًا، وَعِزَّكُمْ ذُلًّا، وَانْتِصَارَكُمْ هَزِيمَةً وَكَسْرًا، فَيَسْتَرِيحُوا مِنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْمَغَارِمِ لَكُمْ، بِالتَّبَعِ لِلْخُرُوجِ مِنْ طَاعَتِكُمْ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ نِفَاقًا لَكُمْ. كَانُوا أَوَّلًا يَتَوَقَّعُونَ ظُهُورَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ صَارُوا يَنْتَظِرُونَ مَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمُوتُ بِمَوْتِهِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ -. وَهَكَذَا يُعَلِّلُ الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ نَفْسَهُ الْخَبِيثَةَ بِالْأَمَانِيِّ وَالْأَوْهَامِ.

وَإِذَا كَانَ مُنَافِقُو الْمَدِينَةِ الَّذِينَ هُمْ أَجْدَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ أَنْ يَعْلَمُوا مَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْقُوَّةِ الذَّاتِيَّةِ، وَمَا فِي اعْتِصَامِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ بِهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، كَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْهَزِيمَةَ مِنَ الرُّومِ فِي تَبُوكَ، وَكَانُوا إِنْ أَصَابَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصِيبَةٌ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْبَشَرُ يَفْرَحُونَ وَيَقُولُونَ: (قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ) (٩: ٥) أَيِ احْتَطْنَا لِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، فَهَلْ يُسْتَغْرَبُ مِثْلُ هَذَا التَّرَبُّصِ مِنَ الْأَعْرَابِ سُكَّانِ الْبَادِيَةِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ مَا ذُكِرَ؟ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ ٥٠ - ٤٥) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.

(عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِمَا يَتَرَبَّصُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ خَبَرٌ بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ مَعَهُمْ، وَمَآلُ الِاحْتِمَالَيْنِ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى حَقٌّ وَمَضْمُونَهُ كَمَضْمُونِ الدُّعَاءِ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَالدُّعَاءُ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ يُرَادُ بِهِ مَآلُهُ وَهُوَ وُقُوعُ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ وَإِحَاطَتُهُ بِهِمْ.

وَالسَّوْءُ بِالْفَتْحِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَهُوَ مَصْدَرُ سَاءَهُ الْأَمْرُ ضِدَّ سَرَّهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْفَتْحِ بِالضَّمِّ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يَسُوءُ، وَالْإِضَافَةُ: كَرَجُلِ صِدْقٍ وَقَدَمِ صِدْقٍ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ: أَيْ عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمُ الدَّائِرَةُ السُّوأَى تُحِيطُ بِهِمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَهَا بِهِمْ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا عَاقِبَةَ لَهُمْ تَتَرَبَّصُ بِهِمْ إِلَّا مَا يَسُرُّهُمْ وَيُفْرِحُهُمْ مِنْ نَصْرِ اللهِ

وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ، وَمَا يَسُوءُ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ خِذْلَانٍ وَخَيْبَةٍ وَتَعْذِيبٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ حَتَّى بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (٥٢) وَقَوْلِهِ (فَلَا تُعْجِبْكُ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ) (٥٥) .

<<  <  ج: ص:  >  >>