للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا طَرْدَهُمْ وَإِخْرَاجَهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ خَرَجَ مُسْتَخْفِيًا كَمَا خَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ صَاحِبِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَوْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّصْرَ فِي كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ وَقْتٍ، حَتَّى نَصَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَعَهُ جَيْشٌ وَلَا أَنْصَارٌ مِنْكُمْ، بَلْ حَالَ كَوْنِهِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ أَيْ: أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْبِيرِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَوَّلِيَّةُ وَلَا الْأَوْلَوِيَّةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَانٍ لِلْآخَرِ، وَمِثْلُهُ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ بِهِ تَمَّ هَذَا الْعَدَدُ. عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ إِنَّمَا يَكُونُ

بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، وَلَا الثَّالِثِ أَوِ الرَّابِعِ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ: " مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا "؟ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الِاثْنَانُ فِي الْغَارِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَكُمْ وَهُوَ غَارُ جَبَلِ ثَوْرٍ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا أَيْ: إِذْ كَانَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي هُوَ ثَانِيهِ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ رَأَى مِنْهُ أَمَارَةَ الْحُزْنِ وَالْجَزَعِ، أَوْ كُلَّمَا سَمِعَ مِنْهُ كَلِمَةً تَدُلُّ عَلَى الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ: لَا تَحْزَنْ، الْحُزْنُ انْفِعَالٌ نَفْسِيٌّ اضْطِرَارِيٌّ يُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ مُجَاهَدَتُهُ، وَعَدَمُ تَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ وَهُوَ تَأَلُّمُ النَّفْسِ مِمَّا وَقَعَ، يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْخَوْفِ مِمَّا يُتَوَقَّعُ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الْمَاضِي بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ (يَقُولُ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لِيَتَمَثَّلَ الْمُخَاطَبُونَ مَا كَانَ لَهَا مِنْ عَظْمَةِ الشَّأْنِ، وَعَلَّلَ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ مَعَنَا أَيْ: لَا تَحْزَنْ؛ لِأَنَّ اللهَ مَعَنَا بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحِفْظِ وَالْعِصْمَةِ، وَالتَّأْيِيدِ وَالرَّحْمَةِ، وَمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَعَهُ بِعِزَّتِهِ الَّتِي لَا تُغْلَبُ وَقُدْرَتِهِ الَّتِي لَا تُقْهَرُ، وَرَحْمَتِهِ الَّتِي قَامَ وَيَقُومُ بِهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَلَّا يَسْتَسْلِمَ لِحُزْنٍ وَلَا خَوْفٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَعِيَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ أَعْلَى مِنْ مَعِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ لِلْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٦: ١٢٧، ١٢٨) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعِيَّةَ فِي آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ لِجَمَاعَةِ الْمُتَّقِينَ الْمُجْتَنِبِينَ لِمَا يَجِبُ تَرْكُهُ وَالْمُحْسِنِينَ لِمَا يَجِبُ فِعْلُهُ، فَهِيَ مُعَلَّلَةٌ بِوَصْفٍ مُشْتَقٍّ هُوَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ لِكُلِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحُزْنِ قَبْلَهَا لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ هُنَا فَهِيَ لِذَاتِ الرَّسُولِ وَذَاتِ صَاحِبِهِ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِوَصْفٍ هُوَ عَمَلٌ لَهَا بَلْ هِيَ خَاصَّةٌ بِرَسُولِهِ وَصَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَاحِبُهُ، مَكْفُولَةٌ بِالتَّأْيِيدِ بِالْآيَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَكِبَرِ الْعِنَايَاتِ،

إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ بِمَقَامِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، الَّتِي يُوَفَّقُ لَهَا الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ الْمُتْقِنِينَ لِلْأَعْمَالِ. يُعْلَمُ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْحَقِّ الْوَاقِعِ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنَ اللَّفْظِ وَحْدَهُ، وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى

<<  <  ج: ص:  >  >>