فَكَانَ أَبْعَدُ إِعْرَابِهِمْ لَهُ عَنِ التَّكَلُّفِ أَنَّ الْبَاءَ حُذِفَتْ مِنْهُ اكْتِفَاءً بِاقْتِرَانِهَا بِمُقَابِلِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وَمُخَالَفَةُ الْمَعْهُودِ فِي أَسَالِيبِ اللُّغَةِ لَا يَكَادُ يَقَعُ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ أَهْلِهَا إِلَّا لِنُكْتَةٍ يَقْصِدُونَهَا بِهِ، وَكَلَامُ رَبِّ الْبُلَغَاءِ وَمُنْطِقِهِمْ بِاللُّغَاتِ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَالنُّكَتُ مِنْهَا لَفْظِيٌّ كَالِاخْتِصَارِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الْأُسْلُوبِ، وَمِنْهَا مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَعْلَى. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ نُكَتِ مُخَالَفَةِ الْمَعْهُودِ الْكَثِيرِ تَنْبِيهُ الذِّهْنِ الْمُتَأَمِّلِ، كَمَنْ يُرِيدُ إِيقَافَ سَالِكِ الطَّرِيقِ فِي مَكَانٍ مِنْهُ لِفَائِدَةٍ لَهُ فِي الْوُقُوفِ، كَمَا أَرَى اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُوسَى النَّارَ فِي الشَّجَرَةِ بِجَانِبِ الطُّورِ فَحَمَلَ أَهْلَهُ
عَلَى الْمُكْثِ فِيهِ لِمَا عَلِمْنَا مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا النَّوْعَ مِنَ النُّكَتِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلْنَا مِنْهُ عَطْفَ الْمَرْفُوعِ عَلَى الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) (٥: ٦٩) أَيْ وَكَذَا الصَّابِئُونَ أَوْ وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ، خَصَّ هَؤُلَاءِ بِإِخْرَاجِهِمْ عَنْ نَسَقِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْإِعْرَابِ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ بَقَايَا أَهْلِ كِتَابٍ وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) لِلتَّنْبِيهِ إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي كَوْنِ اللهِ تَعَالَى أَعْلَمَ بِأَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ هُنَا بِالذَّاتِ بِدَلِيلِ سَابِقِ الْكَلَامِ وَلَاحِقِهِ إِذْ هُوَ فِيهِمْ، وَمَا ذَكَرَ الْعِلْمَ بِالْمُهْتَدِينَ إِلَّا لِأَجْلِ التَّكْمِلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ ; وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ لَا عَطْفَ مُفْرَدٍ، فَتَأَمَّلْ. وَلَوْ جَازَتِ الْإِضَافَةُ هُنَا نَحْوُ " أَفْضَلُ مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ ". لَكَانَ الْكَلَامُ احْتِبَاكًا تَقْدِيرُهُ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ وَمَنْ يَهْتَدِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِالضَّالِّينَ وَبِالْمُهْتَدِينَ، فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَلَيْسَ الْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ الْإِضَافَةِ هُنَا كَوْنَ صِلَةِ " مَنْ " فِعْلًا مُضَارِعًا لَا مَاضِيًا كَالْمِثَالِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ وَنَظَائِرَهُ، بَلِ الْمَانِعُ هُوَ أَنَّ الْمُضَافَ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ جِنْسِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا جِنْسَ لَهُ، وَلَوِ اقْتَرَنَ الْمَوْصُولُ هُوَ بِالْجَارِ فَقِيلَ: هُوَ أَعْلَمُ مِمَّنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ، لَجَزَمْنَا بِالِاحْتِبَاكِ.
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ يُضِلُّونَ مَنْ أَطَاعَهُمْ لِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ خَرَّاصُونَ، وَأَنَّهُ هُوَ أَعْلَمُ بِالضَّالِّينَ وَالْمُهْتَدِينَ، رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَ اتِّبَاعِ هَذَا الرَّسُولِ بِمُخَالَفَةِ الضَّالِّينَ مِنْ قَوْمِهِمْ وَغَيْرِ قَوْمِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الذَّبَائِحِ وَبِتَرْكِ جَمِيعِ الْآثَامِ فَقَالَ: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِذَا كَانَ أَمْرُ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى مَا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ دُونَ غَيْرِهِ - وَهُوَ مَا يُصَرِّحُ بِهِ بَعْدَ آيَتَيْنِ مِنَ السِّيَاقِ - إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ الَّتِي جَاءَتْكُمْ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ مُؤْمِنِينَ، وَبِمَا يُخَالِفُهَا مِنْ ضَلَالِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَجَهْلِ أَهْلِهِ مُكَذِّبِينَ، وَحِكْمَةُ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَرْنِهَا بِمَسَائِلِ الْعَقَائِدِ هُوَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ جَعَلُوا الذَّبَائِحَ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَاتِ، بَلْ نَظَّمُوهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute