الظَّاهِرُ أَنَّ طَالُوتَ تَعْرِيبٌ لِشَاوِلَ - وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ فِي اللَّفْظِ - وَقِيلَ: إِنَّهُ لَقَبٌ لَهُ مِنَ الطُّولِ، كَمَلَكُوتٍ مِنَ الْمُلْكِ وَأَمْثَالِهَا; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ طَوِيلًا مُشَذَّبًا، فَفِي سِفْرِ صَمْوَئِيلَ الْأَوَّلِ مِنَ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ ((مِنْ كَتِفِهِ فَمَا فَوْقُ كَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ الشَّعْبِ)) وَفِيهِ ((فَوَقَفَ بَيْنَ
الشَّعْبِ فَكَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ الشَّعْبِ مِنْ كَتِفِهِ فَمَا فَوْقُ)) - وَاعْتَرَضَ بِمَنْعِ صَرْفِهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ ذِكْرِ طَالُوتَ: هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ ((شَاوِلَ)) وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ طَالُوتَ فَهُوَ طَالُوتُ، أَيْ أَنَّنَا لَا نَعْبَأُ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ لِمَا قَدَّمْنَا، وَإِذَا عَلِمَ الْقَارِئُ أَنَّ الْقَوْمَ لَا يَعْرِفُونَ كَاتِبَ سِفْرَيْ صَمْوَئِيلَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَنْ هُوَ، وَلَا فِي أَيِّ زَمَنٍ كُتِبَا، فَإِنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَلَّا يُعْتَدَّ بِتَسْمِيَتِهِمْ، وَأَمَّا اسْتِنْكَارُهُمْ جَعْلَهُ مَلِكًا فَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ وَقَالُوا: إِنَّ مِنْهُمْ مَنِ احْتَقَرَهُ، وَلَكِنَّ أَخْبَارَهُمْ لَا تَتَّصِلُ بِأَسْبَابِهَا، وَلَا تُقْرَنُ بِعِلَلِهَا. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي اسْتِنْكَارِهِمْ لِمُلْكِهِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ بِنْيَامِينَ لَا مِنْ بَيْتِ يَهُوذَا، وَهُوَ بَيْتُ الْمُلْكِ، وَلَا مِنْ بَيْتِ لَاوِي، وَهُوَ بَيْتُ النُّبُوَّةِ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، وَقَالُوا: كَانَ رَاعِيًا أَوْ دَبَّاغًا أَوْ سَقَّاءً، وَلَا يَصِحُّ كَلَامُهُمْ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُلُوكٌ قَبْلَهُ، وَنَفْيُهُمْ سَعَةَ الْمَالِ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِلْمُلْكِ فِي رَأْيِ الْقَائِلِينَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، وَإِنَّمَا الْعَبْرَةُ فِي الْعِبَارَةِ هِيَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ طِبَاعِ النَّاسِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْمُلْكِ، أَوْ ذَا نَسَبٍ عَظِيمٍ يَسْهُلُ عَلَى شُرَفَاءِ النَّاسِ وَعُظَمَائِهِمُ الْخُضُوعُ لَهُ، وَذَا مَالٍ عَظِيمٍ يُدَبِّرُ بِهِ الْمُلْكَ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّهُمْ قَدِ اعْتَادُوا الْخُضُوعَ لِلشُّرَفَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَازُوا عَلَيْهِمْ بِمَعَارِفِهِمْ وَصِفَاتِهِمُ الذَّاتِيَّةِ، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ نَبِيِّهِ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُلْكِ يَكُونُ بِالنَّسَبِ وَسَعَةِ الْمَالِ بِقَوْلِهِ:
(قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) فَسَّرُوا اصْطِفَاءَ اللهِ تَعَالَى هُنَا بِوَحْيهِ لِذَلِكَ النَّبِيِّ أَنْ يَجْعَلَ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَقَالَ: اصْطَفَاهُ لَكُمْ كَمَا قَالَ: (اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) (٢: ١٣٢) وَالْمُتَبَادَرُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ فَضَّلَهُ وَاخْتَارَهُ عَلَيْكُمْ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِلْمُلْكِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنَ اخْتِيَارِهِ كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ بَيَانٌ لِأَسْبَابِ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: (١) الِاسْتِعْدَادُ الْفِطْرِيُّ (٢) السَّعَةُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ التَّدْبِيرُ (٣) بَسْطَةُ الْجِسْمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute