للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَعَالَى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)

إِلَى قَوْلِهِ: (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٣: ٣٢ - ٣٥) .

(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى سَرِيعُ الْعِقَابِ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ أَوْ بِنِعَمِهِ وَخَالَفَ شَرْعَهُ وَتَنَكَّبَّ سُنَنَهُ، وَسُرْعَةُ الْعِقَابِ تَصْدُقُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْعِقَابَ الْعَامَّ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ مِنْ سُوءِ التَّأْثِيرِ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا مَا حُرِّمَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الضَّرَرِ فِي النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْعِرْضِ أَوِ الْمَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّئُوُنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ مَا حُرِّمَتْ إِلَّا لِضَرَرِهَا، وَهُوَ وَاقِعٌ مُطَّرِدٌ فِي الدُّنْيَا فِي ذُنُوبِ الْأُمَمِ وَأَكْثَرِيٌّ فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ، وَلَكِنَّهُ يَطَّرِدُ فِي الْآخِرَةِ بِتَدْنِيسِهَا النَّفْسَ وَتَدْسِيَتِهَا كَمَا وَضَّحْنَاهُ مِرَارًا، وَقَدْ يَسْتَبْطِئُ النَّاسُ الْعِقَابَ قَبْلَ وُقُوعِهِ ; لِأَنَّ مَا فِي الْغَيْبِ مَجْهُولٌ لَدَيْهِمْ فَيَسْتَبْعِدُونَهُ وَهُوَ عِنْدَ اللهِ مَعْلُومٌ مَشْهُودٌ فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (٧٠: ٦، ٧) .

وَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَى سُرْعَةِ عِقَابِهِ وَشِدَّةِ عَذَابِهِ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ غَفُورٌ لِلتَّوَّابِينَ الْأَوَّابِينَ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُحْسِنِينَ، بَلْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ وَوَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ جَزَاءَ الْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا وَقَدْ يُضَاعِفُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَجَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا وَقَدْ يَغْفِرُهَا لِمَنْ تَابَ مِنْهَا (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (٤٢: ٣٠) وَقَدْ أَكَّدَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ هُنَا بِمَا لَمْ يُؤَكِّدْ بِهِ الْعِقَابَ وَهُوَ اللَّامُ فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَنَا ذُنُوبَنَا وَيُكَفِّرَ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا. وَيَتَغَمَّدَنَا بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، وَيَجْعَلَ لَنَا نَصِيبًا عَظِيمًا مِنْ رَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ، وَيَكُونَ مِنْهُ تَوْفِيقُنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ هِدَايَةِ الْأُمَّةِ، وَكَشْفِ الْغُمَّةِ، فَنَكُونَ هَادِينَ مَهْدِيِّينَ، وَقَدْ تَمَّ تَفْسِيرُ رُبْعِهِ بِفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

اسْتِدْرَاكٌ عَلَى تَفْسِيرِ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْحَرِيصُ عَلَى دِينِهِ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ إِنَّمَا سُمُّوا بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُمْ سَارُوا فِي الِاهْتِدَاءِ بِالْإِسْلَامِ عَلَى السُّنَّةِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ الْقُرْآنِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١٦: ٤٤) وَتَلَقَّاهَا عَنْهُ بِالْعَمَلِ جَمَاعَةُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَصَابَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي حَصْرِهِ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ الدِّينِيِّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَمَا رُوِيَ مِنَ الْآثَارِ فِي شُذُوذِ أَفْرَادٍ عَمَّا ثَبَتَ عَمَلُ الْجُمْهُورِ بِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَعَمَلُ الْجُمْهُورِ هُوَ السُّنَّةُ وَهُمُ الْجَمَاعَةُ. وَالْأَقْوَالُ

وَحْدَهَا لَا يَتَبَيَّنُ بِهَا الْمُرَادُ بَيَانًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَالْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيٌّ الْمُرْتَضِي كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>