(الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا أَيْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا، أَيْ يَقِينًا فِي الْإِذْعَانِ، وَقُوَّةً فِي الِاطْمِئْنَانِ، وَسَعَةً فِي الْعِرْفَانِ، وَنَشَاطًا فِي الْأَعْمَالِ، وَيُطْلَقُ الْإِيمَانُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى مَجْمُوعِ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْقَرَائِنُ
تُعَيِّنُ الْمُرَادَ، وَفِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ صَحِيحَيْهِمَا شَوَاهِدُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ أَهَمِّهَا أَحَادِيثُ أَقَلِّ الْإِيمَانِ الْمُنَجِّي فِي الْآخِرَةِ وَحَدِيثُ الْإِيمَانُ بِضْعَةٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَلِهَذَا حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ عَلَى زِيَادَةِ الْعَمَلِ اللَّازِمِ لَهُ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى زِيَادَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي فَسَّرُوهُ بِالتَّصْدِيقِ الْقَطْعِيِّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِيمَانَ الْقَلْبِيَّ نَفْسَهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ أَيْضًا، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُؤْمِنًا بِإِحْيَاءِ اللهِ لِلْمَوْتَى لَمَّا دَعَاهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِيهَا قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (٢: ٢٦٠) فَمَقَامُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الْإِيمَانِ يَزِيدُ عَلَى مَا دُونَهُ مِنَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ قُوَّةً وَكَمَالًا، وَيَرْوِي عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا، وَهَذَا أَقْوَى مِنَ الْإِيمَانِ بِالْبُرْهَانِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ التَّقْلِيدِ الَّذِي قَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ إِذَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَكَانَ يَقِينًا، وَالْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ فِي الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنَ الْعِلْمِ الْإِجْمَالِيِّ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِتَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ الَّتِي تُنَافِيهِ أَوْ تُنَافِي كَمَالَهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ " اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ " رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَأَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَحَسَّنَهُ وَغَيْرُهُمَا، وَكَمْ مِنْ مُدَّعٍ لِتَوْحِيدِ اللهِ وَنَاطِقٍ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَهُوَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللهِ بِدُعَائِهِ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَ " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا.
وَمَثَلٌ آخَرُ: مَنْ آمَنَ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِلْمًا مُحِيطًا بِالْمَعْلُومَاتِ، وَحِكْمَةً قَامَ بِهَا نِظَامُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَرَحْمَةً وَسِعَتْ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَكَانَ عِلْمُهُ بِهِنَّ إِجْمَالِيًّا لَوْ سَأَلْتَهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَكَ شَوَاهِدَهُ فِي الْخَلْقِ لَعَجَزَ عَنْهَا - لَا يُوزَنُ إِيمَانُهُ بِإِيمَانِ ذِي الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْكَائِنَاتِ وَعَجَائِبِ صُنْعِهِ فِيهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ تَفْصِيلُ النَّشْأَتَيْنِ، وَالْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِ التَّفَكُّرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَقَدِ اتَّسَعَتْ مَعَارِفُ الْبَشَرِ بِهَذِهِ السُّنَنِ وَالْأَسْرَارِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَعَرَفُوا مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ عَشْرُ مِعْشَارِهِ لِأَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ
الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، وَمِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْوَاحِدِيِّ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ عِنْدَهُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى كَانَ إِيمَانُهُ أَزْيَدَ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: إِنَّ نَفْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute