للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(١٩ فَإِنِّي بَشَرٌ مَنْظُورٌ، وَكُتْلَةٌ مِنْ طِينٍ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَفَانٍ كَسَائِرِ الْبَشَرِ ٢٠، وَإِنَّهُ كَانَ لِي بِدَايَةٌ، وَسَيَكُونُ لِي نِهَايَةٌ، وَإِنِّي لَا أَقْتَدِرُ أَنْ أَبْتَدِعَ خَلْقَ ذُبَابَةٍ) .

وَحَسْبُنَا مَا كَتَبْنَاهُ هُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّثْلِيثِ الْآنَ، وَسَنُبْقِي بَقِيَّةَ مَبَاحِثِهَا إِلَى تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ.

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ الِاسْتِنْكَافُ: الِامْتِنَاعُ عَنِ الشَّيْءِ أَنَفَةً وَانْقِبَاضًا مِنْهُ، قِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ نَكَفَ الدَّمْعَ: إِذَا نَحَّاهُ عَنْ خَدِّهِ بِأُصْبُعِهِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ، وَنَكَفَ مِنْهُ: أَنِفَ، وَأَنْكَفَهُ عَنْهُ: بَرَّأَهُ، وَالْمَعْنَى: لَنْ يَأْنَفَ الْمَسِيحُ، وَلَا يَتَبَرَّأُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، وَلَا هُوَ بِالَّذِي يَتَرَفَّعُ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَمِ خَلْقِ اللهِ بِعَظَمَةِ اللهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ عَلَى الْعُقَلَاءِ مَنْ خَلْقِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالشُّكْرِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ أَفْضَلُ مَا يَتَفَاضَلُونَ بِهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لِلَّهِ أَوْ عَنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ لَا يَسْتَنْكِفُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، (كُلُّ تَقْدِيرٍ مِنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ صَحِيحٌ يُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ) عَلَى أَنَّهُمْ أَعْظَمُ مِنَ الْمَسِيحِ خَلْقًا وَأَفْعَالًا، وَمِنْهُمْ رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي بِنَفْخَةٍ مِنْهُ خُلِقَ الْمَسِيحُ، وَبِتَأْيِيدِ اللهِ إِيَّاهُ بِهِ كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ، وَلَوْلَا نَفْخَتُهُ وَتَأْيِيدُهُ لَمَا كَانَ لِلْمَسِيحِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ.

وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْحَلِيمِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَجُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا

جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ فَيُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَوَجْهُ التَّفْضِيلِ أَنَّ السِّيَاقَ فِي رَدِّ غُلُوِّ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ ; إِذِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَرَفَعُوهُ عَنْ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ فَالْبَلَاغَةُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ تَقْتَضِي التَّرَقِّيَ فِي الرَّدِّ مِنَ الرَّفِيعِ إِلَى الْأَرْفَعِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا التَّقِيَّ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ تَقْبِيلِ يَدِهِ الْوَزِيرُ وَلَا الْأَمِيرُ. فَإِذَا بَدَأْتَ بِذِكْرِ الْأَمِيرِ لَمْ يَعُدْ لِذِكْرِ الْوَزِيرِ مَزِيَّةٌ وَلَا فَائِدَةٌ، بَلْ يَكُونُ لَغْوًا ; لِأَنَّهُ يَنْدَمِجُ فِي الْأَوَّلِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ فَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَكَانَ آخَرُ شَوْطِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنْ جَعَلَ غَايَةَ الْآيَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، لَا كُلِّ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ عَلَى الْكَشَّافِ بِرَدِّ طَرِيقَةِ التَّرَقِّي وَالتَّفَصِّي مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ عَادَ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ نَفْسِهِ، وَجَزَمَ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِظَمِ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ الرَّدَّ عَلَى مَنِ اسْتَكْبَرُوا خَلْقَ الْمَسِيحِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَصُدُورَ بَعْضِ الْآيَاتِ عَنْهُ، فَجَعَلُوهُ إِلَهًا، وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَيَعْمَلُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ آيَاتِ الْمَسِيحِ ; فَهُمْ بِهَذَا أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُنْصِفُ يَرَى أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي هَذَا مِنَ الرَّجْمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>