للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نِظَامِ الْبُيُوتِ بِمَا يُلْقُونَ مِنَ الْفِتَنِ وَيَعْمَلُونَ مِنِ التَّفْرِيقِ لَا تَكَادُ تَسْلَمُ بُيُوتُهُمْ مِنَ الْخَرَابِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ بَاطِنًا فَقَطْ، فَالْمُفْسِدُ الشِّرِّيرُ يُؤْذِي نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ قَدْ يُعْمِيهِ الْغُرُورُ عَنْهَا أَوْ عَنْ كَوْنِهَا مِنْ سَعْيِهِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ إِهْلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيذَاءِ الشَّدِيدِ وَقَدْ صَارَ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمَثَلِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْذِي مُسْتَرْسِلًا فِي إِفْسَادِهِ وَلَوْ أَدَّى إِلَى إِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمُفْسِدِينَ يُؤْذُونَ إِرْضَاءً لِشَهَوَاتِهِمْ وَلَوْ خَرِبَ الْمُلْكُ بِإِرْضَائِهَا.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِـ (تَوَلَّى) صَارَ وَالِيًا لَهُ حُكْمٌ يَنْفَذُ وَعَمَلٌ يَسْتَبِدُّ بِهِ، وَإِفْسَادُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالظُّلْمِ مُخَرِّبِ الْعُمْرَانِ وَآفَةِ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَإِهْلَاكُهُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ يَكُونُ إِمَّا بِسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْمُصَادَرَةِ فِي الْأَمْوَالِ، وَإِمَّا بِقَطْعِ آمَالِ الْعَامِلِينَ مِنْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَفَوَائِدِ مَكَاسِبِهِمْ. وَمَنِ انْقَطَعَ أَمَلُهُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، إِلَّا الضَّرُورِيُّ الَّذِي بِهِ حِفْظُ الدِّمَاءِ، وَلَا حَرْثَ وَلَا نَسْلَ إِلَّا بِالْعَمَلِ. وَقَدْ شَرَحَتْ لَنَا حَوَادِثُ الزَّمَانِ وَسِيَرُ الظَّالِمِينَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَرَأْنَا وَشَاهَدْنَا أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي يَفْشُو فِيهَا الظُّلْمُ تَهْلَكُ زِرَاعَتُهَا، وَتَتْبَعُهَا مَاشِيَتُهَا، وَتَقِلُّ ذُرِّيَّتُهَا، وَهَذَا هُوَ الْفَسَادُ وَالْهَلَاكُ

الصُورِيَّانِ، وَيَفْشُو فِيهَا الْجَهْلُ، وَتَفْسَدُ الْأَخْلَاقُ، وَتَسُوءُ الْأَعْمَالُ حَتَّى لَا يَثِقَ الْأَخُ بِأَخِيهِ، وَلَا يَثِقَ الِابْنُ بِأَبِيهِ فَيَكُونُ بَأْسُ الْأُمَّةِ بَيْنَهَا شَدِيدًا وَلَكِنَّهَا تَذِلُّ وَتَخْنَعُ لِلْمُسْتَعْبِدِينَ لَهَا. وَهَذَا هُوَ الْفَسَادُ وَالْهَلَاكُ الْمَعْنَوِيَّانِ، وَفِي التَّارِيخِ الْغَابِرِ وَالْحَاضِرِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، مَا فِيهِ ذِكْرَى وَمُزْدَجَرٌ.

وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمُفْسِدُ يُشْهِدُ اللهَ عَلَى هِدَايَةِ قَلْبِهِ، عِنْدَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَجْهَلُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ عَمَلِهِ فِي الْإِفْسَادِ: (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) أَيْ: إِنَّ إِفْسَادَ هَذَا الْمُنَافِقِ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُودِ، وَالظَّاهِرُ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ، فَإِفْسَادُهُ فِي عَمَلِهِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَلْبِهِ وَكَذِبِهِ فِي إِشْهَادِ اللهِ عَلَيْهِ (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٥: ٦٤) لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الظَّاهِرَةَ الْمَحْمُودَةَ، لَا تَكُونُ مَحْمُودَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا أَصْلَحَ صَاحِبُهَا عَمَلَهُ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَقْوَالِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَهِيَ تُرْشِدُنَا إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ وَعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا انْصَرَفُوا مِنْ مَجَالِسِ الْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ سَعْيٍ وَعَمَلٍ، وَالْعَمَلُ إِمَّا خَيْرٌ وَإِصْلَاحٌ، وَإِمَّا شَرٌّ وَإِفْسَادٌ، وَكُلُّ إِنَاءٍ يَنْضَحُ بِمَا فِيهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>