للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ حَتَّى مَاتَ فَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ يَقُولُ لَمَّا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَبَيَّنَ لَهُ حِينَ مَاتَ وَعَلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ انْقَطَعَتْ عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَمِنْ قَرَابَتِهِ، وَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) (٥٨: ٢٢) الْآيَةَ.

وَوَرَدَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَعُدُّ مِنَ الْخِزْيِ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ فِي النَّارِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ رُؤْيَتِهِ فِي النَّارِ وَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَلَّا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ)) فَيَمْسَخُ اللهُ أَبَاهُ ذِيخًا - وَهُوَ ذَكَرُ الضِّبَاعِ الْكَثِيرِ الشَّعَرِ - حَتَّى لَا يَخْزَى إِبْرَاهِيمُ ابْنُهُ بِرُؤْيَتِهِ فِي النَّارِ عَلَى صُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُ وَلِقَوْمِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ ص ٤٤٩ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ.

(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِوَصْفِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُبَالَغَةِ فِي خَشْيَةِ اللهِ وَالْخُشُوعِ لَهُ، وَبِالْحِلْمِ وَالثَّبَاتِ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا، تَعْلِيلٌ لِامْتِنَاعِهِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِرُسُوخِهِ فِي الشِّرْكِ وَعَدَاوَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. الْأَوَّاهُ: الْكَثِيرُ التَّأَوُّهِ وَالتَّحَسُّرِ وَإِنَّمَا يَتَأَوَّهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَيَتَحَسَّرُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَلَا سِيَّمَا أَبِيهِ، وَيُطْلَقُ الْأَوَّاهُ عَلَى الْخَاشِعِ الْكَثِيرِ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ لِلَّهِ. وَأَصْلُ التَّأَوُّهِ قَوْلُ ((أَوْهَ)) أَوْ آهٍ (بِالْكَسْرِ مُنَوَّنًا وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ) أَوْ وَاهٍ، أَوْ أَوَّهْ. وَفِي

حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ ((الْأَوَّاهُ الْخَاشِعُ الْمُتَضَرِّعُ)) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ رِوَايَاتٌ مِنْهَا: أَنَّهُ الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَالْحَلِيمُ: الَّذِي لَا يَسْتَفِزُّهُ الْغَضَبُ وَلَا يَعْبَثُ بِهِ الطَّيْشُ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ الْجَهْلُ أَوْ هَوَى النَّفْسِ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ وَالصَّفْحُ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَاتِّقَاءِ الْعَجَلَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الرَّغَبِ وَالرَّهَبِ، وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ تَعْلِيلٌ لِمَا كَانَ مِنِ اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ، قَالَ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْأَوَّاهِ بِالَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لِفَرْطِ تَرَحُّمِهِ وَرِقَّتِهِ وَحِلْمِهِ كَانَ يَتَعَطَّفُ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَعَ شَكَاسَتِهِ عَلَيْهِ وَقَوْلِهِ: (لَأَرْجُمَنَّكَ) اهـ.

(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ) أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى فِي حِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَصِفَ قَوْمًا بِالضَّلَالِ، وَيُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُ بِالذَّمِّ وَالْعِقَابِ، بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، بِمُجَرَّدِ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ صَدَرَ عَنْهُمْ بِخَطَأِ الِاجْتِهَادِ.

(حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، بَيَانًا جَلِيًّا وَاضِحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فَهُوَ يَشْرَعُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ بِهِ رَأْيُهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>