لَهَا، فَنَزَلَتْ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ وَفِيهِ: لَمَّا هَبَطَ مِنْ ثَنِيَّةِ عَسْفَانَ. وَفِيهِ نُزُولُ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ. فَهَذِهِ طُرُقٌ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَأْخِيرِ نُزُولِ الْآيَةِ عَنْ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ أَنْ شُجَّ وَجْهُهُ: ((رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) لَكِنْ يُحْتَمَلُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْفَارُ خَاصًّا بِالْأَحْيَاءِ وَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ تَأَخَّرَ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ لِنُزُولِهَا سَبَبَانِ مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ أَمْرُ أَبِي طَالِبٍ وَمُتَأَخِّرٌ وَهُوَ أَمْرُ آمِنَةَ، وَيُؤَيِّدُ تَأْخِيرَ النُّزُولِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةَ مِنِ اسْتِغْفَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ النُّزُولِ وَإِنْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَفِي غَيْرِهِ، وَالثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَحْدَهُ، وَيُؤَيِّدُ تَعَدُّدَ السَّبَبِ مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِوَالِدَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللهُ (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ) الْآيَةَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: أَلَا نَسْتَغْفِرُ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَنَزَلَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرْنَا لَهُ أَنَّ رِجَالًا. . . . . فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِذَا خَتَمَ عُمُرَهُ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قَارَنَ نُطْقَ لِسَانِهِ عَقْدُ قَلْبِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ وَصَلَ إِلَى حَدِّ انْقِطَاعِ الْأَمَلِ مِنَ الْحَيَاةِ وَعَجَزَ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَرَدِّ الْجَوَابِ، وَهُوَ وَقْتُ الْمُعَايَنَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (٤: ١٨) وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ وَقَدْ تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ فِي اسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِآبَائِهِمْ وَأُولِي قُرْبَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَأَسِّيًا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ فَكَفُّوا.
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ تَأَسِّيكُمْ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ مَا كَانَ وَمَا وَقَعَ لِسَبَبٍ وَلَا عِلَّةٍ (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) فِي حَيَاتِهِ
إِذَا كَانَ يَرْجُو إِيمَانَهُ فَقَالَ لَهُ: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (٦٠: ٤) أَيْ لَا أَمْلِكُ لَكَ هِدَايَةً وَلَا نَجَاةً وَإِنَّمَا أَمْلِكُ دُعَاءَ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ وَفَّى بِوَعْدِهِ وَمَا كَانَ إِلَّا وَفِيًّا كَمَا شَهِدَ لَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٥٣: ٣٧) فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يَبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٢٦: ٨٦ - ٨٩) أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالشَّكِّ الْمُقْتَضِي لِلنِّفَاقِ، فَمَنِ اسْتَغْفَرَ لِحَيٍّ يَرْجُو إِيمَانَهُ، يَقْصِدُ سُؤَالَ اللهِ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا يَكُونُ بِهِ أَهْلًا لِلْمَغْفِرَةِ فَلَا بَأْسَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute