للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ هَزِيمَةَ مَنْ تَوَلَّى مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَتْ بِوَسْوَاسٍ مِنَ الشَّيْطَانِ اسْتَزَلَّهُمْ فَزَلُّوا أَرَادَا أَنْ يُحَذِّرَهُمْ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ بِهَا قُلُوبَ الْكَافِرِينَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا أَيْ لَا تَكُونُوا مِثْلَ هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمْ أَوْ فِي شَأْنِ إِخْوَانِهِمْ فِي النَّسَبِ أَوِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَذْهَبِ، إِذَا هُمْ ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ - أَيْ سَافَرُوا فِيهَا لِلتِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ - فَمَاتُوا، أَوْ كَانُوا غُزًّى

أَيْ غُزَاةً - وَهُوَ جَمْعٌ لِغَازٍ مِنَ الْجُمُوعِ النَّادِرَةِ وَمِثْلُهُ عُفًّى جَمْعُ عَافٍ - سَوَاءٌ كَانَ غَزْوُهُمْ فِي وَطَنِهِمْ أَوْ فِي بِلَادٍ أُخْرَى فَقُتِلُوا: لَوْ كَانُوا مُقِيمِينَ عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا، أَيْ مَا مَاتَ أُولَئِكَ الْمُسَافِرُونَ، وَمَا قُتِلَ أُولَئِكَ الْغَازُونَ، وَقَرْنُ هَذَا الْقَوْلِ بِالْكُفْرِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْ مُؤْمِنٍ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ.

(أَحَدُهُمَا) أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ مُصَادِمٌ لِلْوُجُودِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَقَدِ انْتَهَى أَمْرُهُ وَصَارَ قَوْلُ (لَوْ كَانَ كَذَا) عَبَثًا لِأَنَّ الْوَاقِعَ لَا يَرْتَفِعُ، وَالْحَسْرَةَ عَلَى الْفَائِتِ لَا تُفِيدُ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الْعَقْلِ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ ; وَلِذَلِكَ جَعَلَ - سُبْحَانَهُ - الْخِطَابَ فِي كِتَابِهِ مُوَجَّهًا إِلَى الْعُقَلَاءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أُولِي الْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهُ وَيَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَقْبَلُونَ هِدَايَتَهُ، وَقَالَ فِيمَنْ لَا إِيمَانَ لَهُمْ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [٧: ١٧٩] .

(ثَانِيهِمَا) أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِ قَائِلِهِ بِالدِّينِ أَوْ جُحُودِهِ، فَإِنَّ الدِّينَ يُرْشِدُ إِلَى تَحْدِيدِ الْآجَالِ وَكَوْنِهَا بِإِذْنِ اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [٣: ١٤٥] فَارْجِعْ إِلَيْهِ.

وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي الْآيَاتِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِعْلًا، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ كَافِرٍ فَلَا يَلِيقُ مِثْلُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ سُئِلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَقَالَ: إِنَّنِي أُجِيبُ السَّائِلَ بِمِثْلِ مَا أَجَبْتُ بِهِ مَنْ سَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ هِيَ السَّبَبُ فِي تَأَخُّرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ وَلَا يَحْفِلُونَ بِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ مَا يُنْتَقَدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْإِسْلَامِ الْخَالِصِ، فَمَا قَرَّرَهُ فَهُوَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ

فِي نَفْسِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُلْحِدٍ إِنْكَارُهُ. وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>