للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْبَلَدِ. وَفِي خُطَطِ الْمَقْرِيزِيِّ: قَالَ الْقُضَاعِيُّ سِجْنُ يُوسُفَ بِبُوصِيرَ مِنْ عَمَلِ الْجِيزَةِ، أَجْمَعَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَكَانِ، وَفِيهِ أَثَرُ نَبِيَّيْنِ: أَحَدُهُمَا يُوسُفُ سُجِنَ فِيهِ الْمُدَّةَ الَّتِي ذُكِرَ أَنَّ مَبْلَغَهَا سَبْعُ سِنِينَ، وَالْآخِرُ مُوسَى، وَقَدْ بُنِيَ عَلَى أَثَرِهِ مَسْجِدٌ يُعْرَفُ بِمَسْجِدِ مُوسَى إِلَخْ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا يُوثَقُ بِهَا.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أَيْ قَالَ فَأَرْسَلُونِي إِلَيْهِ فَأَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَهُ فَاسْتَفْتَاهُ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَلَأُ مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَا الْمَلِكِ، مُنَادِيًا لَهُ بِاسْمِهِ وَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ لَقَبِهِ الصِّدِّيقُ وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ غَايَةَ الْكَمَالِ بِالصِّدْقِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَتَعْبِيرِ الْأَحْلَامِ، شَارِحًا لَهُ رُؤْيَا الْمَلِكِ بِنَصِّهَا - وَهُوَ بَسْطٌ فِي مَحَلِّهِ بَعْدَ إِيجَازٍ فِي مَحَلِّهِ - قَائِلًا: (أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) وَعَلَّلَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءَ بِمَا يَرْجُو أَنْ يُحَقِّقَ لِيُوسُفَ أَمَلَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ وَانْتِفَاعِ الْمَلِكِ وَمَلَئِهِ بِعِلْمِهِ فَقَالَ:

(لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أُولِي الْأَمْرِ، وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بِمَا تُلْقِيهِ إِلَيَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالرَّأْيِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَكَانَتَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ، أَوْ يَعْلَمُونَ مَا جَهِلُوا مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَا الْمَلِكِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمُوا

بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، فَلَعَلَّ الْأَوْلَى تَعْلِيلٌ لِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بِإِفْتَائِهِ، وَلَعَلَّ الثَّانِيَةَ تَعْلِيلٌ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِهَا، وَالرَّجَاءُ تَوَقُّعُ خَيْرٍ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهِ.

(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) أَيْ قَالَ يُوسُفُ مُبَيِّنًا لِلْمَلَأِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ عَمَلُهُ، لِتَلَافِي مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنَ الْخَطَرِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، قَبْلَ وُقُوعِ تَأْوِيلِهَا الَّذِي بَيَّنَهُ فِي سِيَاقِ هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَمَلِيِّ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ بَلَاغَةِ الْأُسْلُوبِ وَالْإِيجَازِ، وَلَا تَجِدُ لَهُ ضَرِيبًا فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، خَاطَبَ أُولِي الْأَمْرِ بِمَا لَقَّنَهُ لِلسَّاقِي خِطَابَ الْآمْرِ لِلْمَأْمُورِ الْحَاضِرِ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الشُّرُوعَ فِي زِرَاعَةِ الْقَمْحِ دَائِبِينَ عَلَيْهِ دَأَبًا مُسْتَمِرًّا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ) ١٤: ٣٣ سَبْعَ سِنِينَ بِلَا انْقِطَاعٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَزْرَعُونَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ) ٦١: ١١ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَابِ إِيجَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ يُوجَدُ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ قَوْلُهُ: (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) أَيْ فَكُلُّ مَا حَصَدْتُمْ مِنْهُ فِي كُلِّ زَرْعَةٍ فَاتْرُكُوهُ - أَيِ ادَّخِرُوهُ - فِي سُنْبُلِهِ بِطَرِيقَةٍ تَحْفَظُهُ مِنَ السُّوسِ بِعَدَمِ سَرَيَانِ الرُّطُوبَةِ إِلَيْهِ: الْحَبُّ لِغِذَاءِ النَّاسِ وَالتِّبْنُ لِغِذَاءِ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّنِينَ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْقَصْدِ وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا يَسُدُّ حَاجَةَ الْجُوعِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَقْنَعُونَ فِي سِنِيِّ الْخِصْبِ وَالرَّخَاءِ بِالْقَلِيلِ، فَهَذِهِ السِّنِينُ السَّبْعُ تَأْوِيلٌ لِلْبَقَرَاتِ السَّبْعِ السِّمَانِ، وَالسُّنْبُلَاتُ السَّبْعُ الْخُضْرُ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي كَوْنِ كُلِّ سُنْبُلَةٍ تَأْوِيلًا لِزَرْعِ سَنَةٍ.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ) أَيْ سَبْعِ سِنِينَ شِدَادٍ فِي مَحَلِّهِنَّ وَجَلْبِهِنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>