لَمَّا كَانَ طَمَعُ الْبَشَرِ فِي الْمَالِ لَا حَدَّ لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْغَنِيُّ أَشَدَّ طَمَعًا فِيهِ مِنَ الْفَقِيرِ، وَكَانَ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ لَا يُرْضِيهِ قِسْمَةُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ لَهُ إِذَا لَمْ يُعْطِهِ مَا يُرْضِي طَمَعَهُ، وَكَانَ غَيْرُ الْمَعْصُومِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ، وَمِنَ الْأَغْنِيَاءِ عُرْضَةً لِاتِّبَاعِ الْهَوَى فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ، بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى مَصَارِفَهَا بِنَصِّ كِتَابِهِ فَقَالَ:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ هَذِهِ الْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِوُجُوبِ قَصْرِ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ زَكَاةُ النُّقُودِ عَيْنًا أَوْ تِجَارَةً وَالْأَنْعَامِ وَالزَّرْعِ وَالرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ عَلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ أَوِ الثَّمَانِيَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمَزَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ إِعْطَائِهِمْ مِنْهَا - وَهُمْ لَيْسُوا مِنْهُمْ - وَقَاطِعَةٌ لِأَطْمَاعِ أَمْثَالِهِمْ. وَ " اللَّامُ " فِي قَوْلِهِ: (لِلْفُقَرَاءِ) لِلْمِلْكِ وَلِلِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ مَفْرُوضَةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَسَيَأْتِي حُكْمُ سَائِرِ الْمَعْطُوفَاتِ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفَانِ مُسْتَقِلَّانِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا وَأَشَدُّ حَاجَةً مِنَ الْمِسْكِينِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى الْعَكْسِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ تَقَالِيدِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي يَتَعَصَّبُ لَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ أَنَّهُمَا قِسْمَانِ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ يَخْتَلِفَانِ بِالْوَصْفِ لَا بِالْجِنْسِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لَنَا، وَلَمْ يَجْمَعِ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَكْفِي مِنْ دَلَالَةِ الْعَطْفِ فِيهَا عَلَى الْمُغَايَرَةِ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَغَيُّرِهِمَا فِي الْوَصْفِ. فَالْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ خِلَافُ الْغَنِيِّ وَمُقَابِلُهُ مُقَابَلَةَ التَّضَادِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا (٤: ١٣٥) وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (٤: ٦) وَقَوْلُهُ: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (٢٤: ٣٢) وَالْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَكُلُّ عِبَادِهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ: وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ (٤٧: ٣٨) وَأَمَّا فَقْرُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَمَا مِنْ غَنِيٍّ إِلَّا وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ فَوْقَهُ وَمِمَّنْ دُونَهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْفَقِيرِ فِي مُقَابَلَةِ الْغَنِيِّ أَوْ إِطْلَاقَ ذِكْرِهِ، يَدُلُّ عَلَى الْمُحْتَاجِ فِي مَعِيشَتِهِ إِلَى مُوَاسَاةِ غَيْرِهِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يَكْفِيهِ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَيُطْلَقُ الْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْكَسِيرِ الْفَقَارِ وَمَنْ يَشْتَكِي فَقَارَهُ - وَهِيَ جَمْعُ فَقْرَةٍ وَفَقَارَةٌ (بِفَتْحِهِمَا) عِظَامُ الظَّهْرِ الْمَنْضُودَةُ مِنْ لَدُنِ الْكَاهِلِ إِلَى عَجْبِ الذَّنَبِ فِي الصُّلْبِ - وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ، كَمَا قِيلَ: وَمِنْهُ الْفَاقِرَةُ وَهِيَ الدَّاهِيَةُ أَوِ الْمُصِيبَةُ الَّتِي تَكْسِرَ فَقَارَ الظَّهْرِ.
وَأَمَّا الْمِسْكِينُ فَمَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ السُّكُونِ الْمُرَادِ بِهِ قِلَّةُ الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ الْحِسِّيِّ مِنَ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، أَوِ النَّفْسِيِّ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالصَّبْرِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْفَقِيرِ إِذَا كَانَ الْفَقْرُ سَبَبَ سُكُونِهِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْمِسْكِينُ الْفَقِيرُ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الذِّلَّةِ وَالضَّعْفِ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute