وَثَانِيهمَا: أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ لِمَا بَعْدَهَا عَلَى مَحْذُوفٍ قَبْلَهَا هُوَ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالتَّقْدِيرُ: أَخْطَأْتُمُ الرَّأْيَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ وَفَعَلْتُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَمْ تُبَالُوا بِذَلِكَ وَتُفَكِّرُوا فِي عَاقِبَتِهِ وَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا تَعَجُّبًا مِنْهُ وَاسْتِغْرَابًا! ! وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ لَا عَجْزًا فِي الْقُدْرَةِ وَلَا قَهْرًا لِلْإِرَادَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قُدْرَتَهُ لَا يَمْنَعُهَا وُجُودُ الرَّسُولِ فِيهِمْ. أَقُولُ أَيْ وَكُلُّ مَا أَصَابَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْتَقَى جَمْعُكُمْ بِجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ فَهُوَ بِإِذْنِ اللهِ: أَيْ إِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَقَضَائِهِ السَّابِقِ بِأَنْ تَكُونَ السُّنَنُ الْعَامَّةُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ مُطَّرِدَةً، فَكُلُّ عَسْكَرٍ يُخْطِئُ الرَّأْيَ وَيَعْصِي الْقَائِدَ وَيَخَلِّي بَيْنَ ظَهْرِهِ يُصَابُ بِمِثْلِ مَا أُصِبْتُمْ أَوْ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ. هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - مِنْ تَفْسِيرِ الْإِذْنِ هُنَا بِقَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قِيلَ وَعِبْرَةٌ، وَعِلْمٌ عَالٍ يُجَلِّي لَهُمْ قَوْلَهُ السَّابِقَ فِي هَذَا السِّيَاقِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [٣: ١٣٧] وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّخْلِيَةِ وَعَدَمِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمَنْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَمْنَعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيقَاعِ بِالْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا تِلْكَ الْعِنَايَةَ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ -، وَقَدْ فَشِلُوا فِي الْأَمْرِ وَعَصَوُا الرَّسُولَ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَذِنَ بِهِ وَأَرَادَهُ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ حَالَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْمَصَائِبِ حَتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى أَسْبَابِهَا، وَالْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ عِنْدَمَا يَظْهَرُ فِيهِمْ حُكْمُهَا فِي الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ، أَيْ لِيَظْهَرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْعِلْمِ فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ، فَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللهِ لِبَيَانِ السَّبَبِ، وَالتَّعْلِيلُ الثَّانِي لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا لِيُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا حَالَ الْمُنَافِقِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ حَالَ الْكَافِرِينَ مَعَهُمْ، وَالَّذِينَ نَافَقُوا هُمُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَتَبَطَّنُوا الْكُفْرَ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّفَقِ، وَهُوَ السِّرْبُ فَهُمْ يَتَسَتَّرُونَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا يَتَسَتَّرُ الرَّجُلُ فِي السِّرْبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ مُشْتَقٌ مِنَ النَّافِقَاءِ وَهُوَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ أَوْ أَحَدُ بَابَيْهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ يَجْعَلُ لِجُحْرِهِ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْقَاصِعَاءُ وَالْآخُرُ النَّافِقَاءُ فَإِذَا طُلِبَ مِنْ أَحَدِهِمَا خَرَجَ مِنَ الْآخَرِ وَهَكَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِ يَظْهَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَابِ الْإِيمَانِ وَلِلْكَافِرِينَ مِنْ بَابِ الْكُفْرِ، فَإِذَا أَصَابَتْهُ مَشَقَّةٌ مِنْ أَحَدِهِمَا لَجَأَ إِلَى الْآخَرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنِ النَّافِقَاءَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ يَحْفِرُهُ فِي الْأَرْضِ وَيُرَقِّقُهُ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِذَا رَابَهُ شَيْءٌ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ دَفَعَ التُّرَابَ بِرَأْسِهِ وَخَرَجَ، فَقِيلَ لِلْمُنَافِقِ مُنَافِقٌ لِأَنَّهُ يُضْمِرُ الْكُفْرَ فِي بَاطِنِهِ، فَإِذَا فُتِّشَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute