للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الذَّهَبِيُّ فَقَالَ: إِسْنَادُهُ مُظْلِمٌ، وَمُوسَى لَيْسَ بِذَاكَ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ، وَوَافَقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُوسَى هَذَا، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ صَالِحٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ حُدُوثَ هَذَا الطُّوفَانِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (٥٤: ٩ - ١٦) وَإِنَّهُ لَوَصْفٌ وَجِيزٌ فِي أَعْلَى مَرَاقِي الْبَلَاغَةِ وَالتَّأْثِيرِ، مَا أَفْظَعَ هَذَا الْمَنْظَرَ! مَا أَشَدَّ هَوْلَهُ! مَا أَعْظَمَ رَوْعَتَهُ! مَاءٌ يَنْهَمِرُ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ انْهِمَارًا، وَأَرْضٌ تَنْفَجِرُ عُيُونًا خَوَّارَةً فَتَفِيضُ مِدْرَارًا، مَاءٌ ثَجَّاجٌ يَصِيرُ بَحْرًا ذَا أَمْوَاجٍ، خَفِيَتْ مِنْ تَحْتِهِ الْأَرْضُ بِجِبَالِهَا، وَخَفِيَتْ مِنْ فَوْقِهِ السَّمَاءُ بِشَمْسِهَا وَكَوَاكِبِهَا، وَكَانَتْ عَلَيْهِ السَّفِينَةُ كَمَا كَانَ عَرْشُ اللهِ عَلَى الْمَاءِ فِي بَدْءِ التَّكْوِينِ، كَأَنَّ مُلْكَ اللهِ الْأَرْضِيَّ قَدِ انْحَصَرَ فِيهَا، فَتَخَيَّلْ أَنَّكَ نَاظِرٌ إِلَيْهَا كَمَا صَوَّرَهَا لَكَ التَّنْزِيلُ، تَتَفَكَّرُ فِيمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذَا الْخَطْبِ الْجَلِيلِ، وَاسْتَمِعْ لِمَا بَيَّنَهُ بِهِ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، أَوْجَزُ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغُهَا تَأْثِيرًا، جَعَلَتْ أَعْظَمَ مَا فِي الْعَالَمِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا.

(وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) أَيْ: وَصَدَرَ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ الْأَعْلَى نِدَاءٌ خَاطَبَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ، بِأَمْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ الْعُقَلَاءُ وَغَيْرُ الْعُقَلَاءِ: ((يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ)) كُلَّهُ الَّذِي عَلَيْكِ، أَوِ الَّذِي تَفَجَّرَ مِنْ بَاطِنِكِ، إِنْ صَحَّ أَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ صَارَ بَحْرًا،

وَالْبَلْعُ: ازْدِرَادُ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ بِسُرْعَةٍ (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) أَيْ: كُفِّي عَنِ الْإِمْطَارِ فَامْتُثِلَ الْأَمْرُ فِي الْحَالِ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ قِيلَ: كُنْ فَكَانَ (وَغِيضَ الْمَاءُ) أَيْ: غَارَ فِي الْأَرْضِ وَنَضَبَ بِابْتِلَاعِهَا لَهُ نُضُوبًا (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أَيْ: وَنَفَذَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَنَجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) أَيْ: وَاسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ رَاسِيَةً عَلَى الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِالْجُودِيِّ (وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ هَلَاكًا وَسُحْقًا لَهُمْ، وَبُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا كَانَ مِنْ رُسُوخِهِمْ فِي الظُّلْمِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَفَقْدِهِمْ الِاسْتِعْدَادَ لِلتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ: أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ١١: ٦٠ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ١١: ٦٨، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْجَبَلَ قَدْ غَمَرَهُ الْمَاءُ وَلَمْ يَرْتَفِعْ فَوْقَهُ إِلَّا قَلِيلًا، فَلَمَّا بَلَغَتْهُ السَّفِينَةُ كَانَ الْمَاءُ فَوْقَهُ رَقْرَاقًا وَبَدَأَ يَتَقَلَّصُ وَيَغِيضُ فَاسْتَوَتْ عَلَيْهِ.

قَرَّرَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبْلَغُ آيَةٍ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. أَحَاطَتْ بِالْبَلَاغَةِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لِفَلْسَفَتِهَا الْفُنُونُ الثَّلَاثَةُ: الْمَعَانِي

<<  <  ج: ص:  >  >>