(أَقُولُ) : إِنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لَأَكْبَرَ عِبْرَةٍ تَفِيضُ لَهَا عَبَرَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْشَعُ لَهَا قُلُوبُ الْمُتَّقِينَ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا يُبْكِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا تُبْكِيهِ هَذِهِ الْآيَاتُ وَحَدِيثُ كَعْبٍ فِي تَفْصِيلِ خَبَرِهِمْ فِيهَا. وَأَيُّ مُؤْمِنٍ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ أَنْ تَفِيضَ مِنَ الدَّمْعِ، وَقَلْبَهُ
أَنْ يَجِفَّ وَيَرْجُفَ مِنَ الْخَوْفِ إِذَا قَرَأَ أَوْ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ، وَتَأَمَّلْ مَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ بَسْطُهَا إِلَّا فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ، وَلَا أَدْرِي مَا عَسَى أَنْ يَنَالَ مِنْ قَسْوَةِ قُلُوبِ الْمُقَلِّدِينَ، وَجَهْلِ الْمَغْرُورِينَ الَّذِينَ يَقْتَرِفُونَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الْفَرَائِضَ وَالْوَاجِبَاتِ، وَيُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فَلَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ، وَإِذَا وَعَظَهُمْ وَاعِظٌ أَوْ ذَكَّرَهُمْ مُذَكِّرٌ؛ وَجَدَ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ بَيْنَ جَازِمٍ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَبَيْنَ مُتَّكِلٍ عَلَى شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْفَظُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُكَفِّرَاتِ لِلذُّنُوبِ مَا لَا يَصِحُّ لَهُ سَنَدٌ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ مَتْنٌ. وَمَا لَهُ أَصْلٌ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ - يُرَادُ بِهِ تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ بِشَرْطِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (٤: ٣١) وَمَا كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِ مَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينِ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦: ١١٩) وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ (آخِرُهَا ص ١٥٨ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ وَبَيَّنَ تَحْرِيمَهَ مُطْلَقًا (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أَيْ مَعَ جَمَاعَةِ الصَّادِقِينَ أَوْ مِنْهُمْ (وِفَاقًا لِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ تَكُونُ تَفْسِيرًا) دُونَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَنَصَّلُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِالْكَذِبِ وَيُؤَيِّدُونَهُ بِالْحَلِفِ. وَالصَّادِقُونَ هُمُ الْمُعْتَصِمُونَ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي جِهَادِهِمْ إِذَا جَاهَدُوا، وَفِي عُهُودِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَفِي أَقْوَالِهِمْ وَوُعُودِهِمْ إِذَا حَدَّثُوا وَوَعَدُوا، وَفِي تَوْبَتِهِمْ إِذَا أَذْنَبُوا أَوْ قَصَّرُوا، وَالْمُنَافِقُونَ ضِدُّهُمْ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ.
تَقَدَّمَ فِي آخِرِ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ بِمَا صَدَقُوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَنْتَحِلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عُذْرًا كَاذِبًا فِي التَّخَلُّفِ عَنِ النَّفَرِ مَعَهُ. وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) مَعَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: مَعَ عَلِيٍّ. وَالْحَقُّ أَنَّهَا عَامَّةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute