للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَنْ أَوَّلِ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فَقَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فَقِيلَ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً وَأَجَابُوا عَمَّا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ بِوُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ الْوَضْعَ غَيْرُ الْبِنَاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ سَمَّاهُ بَيْتًا وَلَوْ جُعِلَ الْمَكَانُ مَسْجِدًا وَلَمْ يُبْنَ فِيهِ لَمَا سُمِّيَ بَيْتًا بَلْ مَسْجِدًا أَوْ قِبْلَةً، وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ

إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي بَنَى أَوَّلَ مَسْجِدٍ لِلْعِبَادَةِ فِي أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ مَعْقُولٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ الَّذِي أَسَّسَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ يَعْقُوبُ وَإِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ مُجَدِّدًا لَهُ. هَذَا وَإِنَّ أَخْبَارَ التَّارِيخِ لَيْسَتْ مِمَّا بَلَغَ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ يُتَّبَعُ، وَالْمَوْضُوعَاتُ الْمَرْوِيَّةُ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ كَثِيرَةٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي ذِكْرِهَا وَبَيَانِ وَضْعِهَا.

أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْبَيْتِ: مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحَالِهِ الْحَسَنَةِ الْحِسِّيَّةِ وَحَالِهِ الشَّرِيفَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، أَمَّا الْأُولَى: فَهِيَ مَا أُفِيضُ عَلَيْهِ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَثَمَرَاتِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى كَوْنِهِ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، فَتَرَى الْأَقْوَاتَ وَالثِّمَارَ فِي مَكَّةَ أَكْثَرَ وَأَجْوَدَ وَأَقَلَّ ثَمَنًا مِنْهَا فِي مِثْلِ مِصْرَ وَكَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ هَوَى أَفْئِدَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَإِتْيَانُهُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُشَاةً وَرُكْبَانًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وَتَوْلِيَةُ وُجُوهِهِمْ شَطْرَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَعَلَّهُ لَا تَمُرُّ سَاعَةٌ وَلَا دَقِيقَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَلَيْسَ فِيهَا أُنَاسٌ مُتَوَجِّهُونَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ يُصَلُّونَ. فَأَيُّ هِدَايَةٍ لِلْعَالَمِينَ أَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ؟ تِلْكَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [١٤: ٣٧] وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الْوَصْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [٢٨: ٥٧] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مُبَارَكًا يَشْمَلُ الْبَرَكَاتِ الْحِسِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ " بَكَّةَ " اسْمٌ لِمَكَّةَ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قِيلَ: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَجَعَلُوهُ مِنْ إِبْدَالِ الْمِيمِ بَاءً، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، كَسَمَدَ رَأْسَهُ وَسَبَدَهُ، وَضَرْبَةِ لَازِمٍ وَضَرْبَةِ لَازِبٍ، وَرَاتِمٍ وَرَاتِبٍ، وَنَمِيطٍ وَنَبِيطٍ وَقِيلَ: بَكَّةُ اسْمُ الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ، أَوْ حَيْثُ الطَّوَافُ مِنَ التَّبَاكِ، أَيِ الِازْدِحَامِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ بَطْنِ مَكَّةَ حَيْثُ الْحَرَمِ.

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ أَيْ فِيهِ دَلَائِلُ أَوْ عَلَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى

أَحَدٍ، أَحَدُهَا أَوْ مِنْهَا: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ مَوْضِعُ قِيَامِهِ فِيهِ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، تَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَرَبُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ. فَأَيُّ دَلِيلٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا عَلَى كَوْنِ هَذَا الْبَيْتِ أَوَّلَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وُضِعَ لِيَعْبُدَ النَّاسُ فِيهِ رَبَّهُمْ؟ وَإِبْرَاهِيمُ أَبُو الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ أَثَرُهُمْ بِجَعْلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ فِيهِمْ لَا يُعْرَفُ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ أَثَرٌ وَلَا يُحْفَظُ لَهُ نَسَبٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>