للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّسْخِيرِ، الَّذِي لَا يُنَازَعُ وَلَا يُعَارَضُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ الْقَهَّارُ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَإِرَادَتِهِ الْعَامَّةِ، وَعِزَّتِهِ الْغَالِبَةِ، لِجَمِيعِ الْقُوَى وَالسُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا نِظَامُ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، كَالنُّورِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ الْبَاطِنَةِ، الَّتِي كَانَ الْجَهْلُ بِحَقِيقَتِهَا، وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَظَاهِرِهَا، هُوَ سَبَبُ عِبَادَتِهَا وَالْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِهَا. الْجَوَابُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ أَدْرَكَا السُّؤَالَ: (بَلْ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) ، لَا رَبَّ غَيْرَهُ وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ: وَلِذَلِكَ رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:

(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) أَيْ غَيْرَ هَذَا الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ) مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ وَضَعْتُمُوهَا لِمُسَمَّيَاتٍ نَحَلْتُمُوهَا صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَعْمَالَ الرَّبِّ الْوَاحِدِ، فَاتَّخَذْتُمُوهَا أَرْبَابًا وَمَا هِيَ بِأَرْبَابٍ تَخْلُقُ، وَلَا تَرْزُقُ، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُدَبِّرُ وَلَا تَشْفَعُ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا مُسَمَّيَاتٍ لَهَا بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ الرَّبِّ الْإِلَهِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ، حَتَّى يُقَالَ إِنَّهَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ خَيْرٌ (مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا) أَيْ بِتَسْمِيَتِهَا أَرْبَابًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (مِنْ سُلْطَانٍ) أَيْ: أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، فَيُقَالُ إِنَّكُمْ تَتَّبِعُونَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ - تَعَالَى - مِنْهُ، تَعَبُّدًا لَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَةً لِرُسُلِهِ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُهَا أَوْ تَعْظِيمُهَا غَيْرَ مُنَافٍ لِتَوْحِيدِهِ، كَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ الطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ، مَعَ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّهُ حَجَرٌ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ - فَهِيَ تَسْمِيَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنَ النَّقْلِ السَّمَاوِيِّ فَتَكُونُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنَ الْعَقْلِ فَتَكُونُ مِنْ نَتَائِجِ الْبُرْهَانِ.

وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا قَامَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّصَارَى بِبُطْلَانِ ثَالُوثِهِمُ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ ثَالُوثَ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ، ادَّعُوا أَنَّ لَهُ أَصْلًا مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَوْ تَلَامِيذِهِ، وَأَنَّهُ بِهَذَا لَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ، فَالثَّلَاثَةُ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْمُؤَرِّخُونَ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ

مِنَ الْوَحْيِ، وَأَنَّ كَلِمَاتِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ لَهَا مَعَانٍ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْمَسِيحِ فِي حَيَاتِهِ، هِيَ غَيْرُ الْمَعَانِي الِاصْطِلَاحِيَّةِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْكَاثُولِيكِ وَالْأُرْثُوذُكْسِ وَالْبُرُوتُسْتَانْتِ الْجَامِعَةِ لِأَكْثَرِ النَّصَارَى. وَالْأَحْرَارُ الْعَقْلِيُّونَ مِنْ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ يَرْفُضُونَهَا كُلُّهُمْ، وَهُمْ مَلَايِينُ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ كَنِيسَةٌ جَامِعَةٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ مَا قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ فِيهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ عَرَفُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ لَكَانُوا كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ وَيُسْلِمُونَ اتِّبَاعًا، كَمَا أَسْلَمُوا فِطْرَةً وَعَقْلًا.

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أَيْ مَا الْحُكْمُ الْحَقُّ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ يُوحِيهِ لِمَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ رُسُلِهِ، لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَلَا بِعَقْلِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ، وَلَا بِاجْتِهَادِهِ وَاسْتِحْسَانِهِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ هِيَ أَسَاسُ دِينِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>