للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي كُلِّ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ عَنِ اعْتِقَادٍ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ يُؤْثَرُ فَقَدْ كَانَ عَنْ تَضْلِيلٍ وَعِنَادٍ، عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَيَّدَ رَسُولَهُ بِآيَاتٍ أُخْرَى غَيْرِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ ازْدَادَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا، وَالْجَاحِدُونَ عِنَادًا وَطُغْيَانًا، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَحْثٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَبْلُ وَسَيَجِيءُ مَا يَقْتَضِي الْعَوْدَةَ إِلَيْهَا بَعْدُ.

(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .

إِنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُؤَيِّدَتَانِ لِمَا قَبْلَهُمَا وَمُتَمِّمَتَانِ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهُمَا أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللهِ جُحُودَ عِنَادٍ لَا تَكْذِيبٍ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنْوَاعًا مِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى فِي أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَا، بَلْ ظَلُّوا فِي ظُلُمَاتِ جَهْلِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهَا وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهَا.

وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي وَجْهِ النَّظْمِ وَمُنَاسَبَةِ الْآيَةِ الْأُولَى لِمَا قَبْلَهَا وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِنْزَالُ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ مَصْلَحَةً لَفَعَلَهَا وَلَأَظْهَرَهَا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِظْهَارُهَا مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ لَا جَرَمَ مَا أَظْهَرَهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرَاعِي مَصَالِحَ الْمُكَلَّفِينَ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَقَرَّرَهُ بِأَنْ قَالَ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)

فِي وُصُولِ فَضْلِ اللهِ وَعِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كَالْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ الْمَحْسُوسِ، فَإِذَا كَانَتْ آثَارُ عِنَايَتِهِ وَاصِلَةً إِلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، فَلَوْ كَانَ فِي إِظْهَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ لَفَعَلَهَا وَلَأَظْهَرَهَا، وَلَامْتَنَعَ أَنْ يَبْخَلَ بِهَا، مَعَ مَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْخَلْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ بِمَهَا وَمَنَافِعِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَمْ يُظْهِرْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ ;

<<  <  ج: ص:  >  >>