للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نِعْمَتَهُ بِالصَّدَقَةِ مِنْهَا، وَالْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ النَّافِعَةِ الَّتِي

يَنْتَظِمُونَ بِهَا فِي سِلْكِ الصَّالِحِينَ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. وَأَعَادَ " اللَّامَ " الْوَاقِعَةَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ فِي (لَنَكُونَنَّ) لِتَأْكِيدِ الْعَزْمِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَسُّلِ بِفَضْلِ الْمَالِ. إِلَى الِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنْهَجِ الصَّلَاحِ، بِمَا هُوَ وَرَاءَ الصَّدَقَاتِ، الَّتِي عَقَدُوا الْعَهْدَ وَالْقَسَمَ عَلَيْهَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مَا طَلَبُوا مِنْ سَعَةِ رِزْقِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا أَيْ: مَا لَبِثُوا أَنْ بَخِلُوا بِمَا آتَاهُمْ عَقِبَ حُصُولِهِ، وَأَمْسَكُوهُ فَلَمْ يَتَصَدَّقُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ: وَتَوَلَّوْا وَانْصَرَفُوا عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَإِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَحَالِ أُمَّتِهِمْ كَمَا عَاهَدُوا وَأَقْسَمُوا، وَلَمْ يَكُنْ تَوَلِّيهِمْ هَذَا أَمْرًا عَارِضًا شَغَلَهُمْ عَنْهُ شَاغِلٌ يَزُولُ بِزَوَالِهِ بَلْ تَوَلَّوْا: وَهُمْ مُعْرِضُونَ بِكُلِّ قُوَاهُمْ عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَكَانَ الْإِعْرَاضُ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ حَاكِمَةٌ عَلَيْهِمْ، بِحَيْثُ إِذَا ذُكِّرُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ لَا يَذْكُرُونَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَيْهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ.

فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ يُقَالُ: أَعْقَبَهُ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَهُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ وَثَمَرَتَهُ أَيْ: فَأَعْقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى، أَوْ أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ الْبُخْلَ وَتَوَلِّيِ الْإِعْرَاضِ، بَعْدَ الْعَهْدِ الْمُوَثَّقِ بِأَوْكَدِ الْإِيمَانِ، نِفَاقًا رَاسِخًا فِي قُلُوبِهِمْ مُتَمَكِّنًا مِنْهَا مُلَازِمًا لَهَا: إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ لِلْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ بَلَغَ الْمُنْتَهَى الَّذِي لَا رَجَاءَ مَعَهُ فِي التَّوْبَةِ. ذَلِكَ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ فَذَكَرَ سَبَبَيْنِ هُمَا أَخَصُّ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نِفَاقِهِمْ: إِخْلَافُ الْوَعْدِ، وَالْكَذِبُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَنُصُوصُ الْأَحَادِيثِ فِيهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْوَعْدُ لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ الْعَهْدِ وَالْقَسَمِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ إِخْلَافِهِمُ الْوَعْدَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي ; لِأَنَّهُ فِي حَادِثَةٍ وَقَعَتْ، وَعَبَّرَ عَنْ كَذِبِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُمِ الدَّائِمُ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ لَوَازِمِ النِّفَاقِ فَالْمُنَافِقُ مُضْطَرٌّ إِلَى الْكَذِبِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يُخَالِفُ بَاطِنَهُ، وَلَابُدَّ لَهُ مِنْ كِتْمَانِ مَا فِي بَاطِنِهِ، وَإِظْهَارِ خِلَافِهِ دَائِمًا لِئَلَّا يَظْهَرَ

فَيُفْتَضَحَ وَيُعَاقَبَ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْكَذِبِ. وَإِسْنَادُ إِعْقَابِهِمُ النِّفَاقَ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْبُخْلِ وَالتَّوَلِّي عَنِ الطَّاعَةِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ مَآلُهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الثَّانِي آدَبُ. وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ النِّفَاقُ يُمَكِّنُ النِّفَاقَ وَيُقَوِّيهِ فِي الْقَلْبِ. كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ يَزِيدُهُ قُوَّةً وَرُسُوخًا فِي النَّفْسِ، وَهَكَذَا جَمِيعُ صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقِهَا وَعَقَائِدِهَا، تُقَوِّي وَتُرَسِّخُ الْعَمَلَ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهَا، فَإِسْنَادُهَا إِلَى الْعَمَلِ يَكُونُ صَحِيحًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَدَرِيَّةُ، كَمَا أَنَّ إِسْنَادَهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى يَكُونُ صَحِيحًا ; لِأَنَّهَا مُقْتَضَى سُنَّتِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقُولُهُ الْجَبْرِيَّةُ وَالصُّوفِيَّةُ، فَالْمُرَادُ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ وَاحِدٌ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَهُوَ: أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>