للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالشَّنَائِعِ شَرٌّ مَكَانًا ; إِذْ لَا مَكَانَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، أَوِ الْمُرَادُ بِإِثْبَاتِ الشَّرِّ لِمَكَانِهِمْ إِثْبَاتُهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، الَّذِي هُوَ كَإِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ، وَأَضَلُّ عَنْ قَصْدِ طَرِيقِ الْحَقِّ وَوَسَطِهِ الَّذِي لَا إِفْرَاطَ فِيهِ وَلَا تَفْرِيطَ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَاتِهِمْ وَأَذَانِهِمْ وَاتِّخَاذِهَا هُزُؤًا وَلَعِبًا إِلَّا الْجَهْلُ وَعَمَى الْقَلْبِ.

(وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمِنًا) الْكَلَامُ فِي مُنَافِقِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ وَجِوَارِهَا ; أَيْ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ فِي حَالِ الْبُعْدِ عَنْكُمْ، وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا لِلرَّسُولِ وَلَكُمْ: إِنَّنَا آمَنَّا بِالرَّسُولِ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أَيْ وَالْحَالُ الْوَاقِعَةُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْكُمْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْكُفْرِ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ قَدْ خَرَجُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهِ ; فَحَالُهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ هِيَ حَالُهُمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ، لَمْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ كُفْرِهِمْ بِالرَّسُولِ، وَمَا نَزَلْ مِنَ الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُمْ يُخَادِعُونَكُمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) (٢: ٧٦) الْآيَةَ (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ) عِنْدَ دُخُولِهِمْ مِنْ قَصْدِ تَسَقُّطِ الْأَخْبَارِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِالنِّفَاقِ وَالْخِدَاعِ، وَعِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْكَذِبِ الَّذِي يَلْقَوْنَهُ إِلَى الْبُعَدَاءِ مِنْ قَوْمِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ)

وَنُكْتَةُ قَوْلِهِ: (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) هِيَ تَأْكِيدُ كَوْنِ حَالِهِمْ فِي وَقْتِ الْخُرُوجِ كَحَالِهِمْ فِي وَقْتِ الدُّخُولِ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ هَذَا لِلتَّأْكِيدِ لِمَجِيئِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ يُجَالِسُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَسْمَعُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَيَرَى مِنَ الْفَضَائِلِ مَا يَكْبُرُ فِي صَدْرِهِ، وَيُؤَثِّرُ فِي قَلْبِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ سَيِّئَ الظَّنِّ رَجَعَ عَنْ سُوءِ ظَنِّهِ، وَأَمَّا سَيِّئُ الْقَصْدِ فَلَا عِلَاجَ لَهُ، وَقَدْ كَانَ يَجِيئُهُ الرَّجُلُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَإِذَا رَآهُ وَسَمِعَ كَلَامَهُ آمَنَ بِهِ وَأَحَبَّهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي أَيَّدَتْهُ التَّجْرِبَةُ، وَإِنَّمَا شَذَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ ; لِأَنَّ سُوءَ نِيَّتِهِمْ وَفَسَادَ طَوِيَّتِهِمْ قَدْ صَرَفَا قُلُوبَهُمْ عَنِ التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَوَجَّهَا كُلَّ قُوَاهُمْ إِلَى الْكَيْدِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّجَسُّسِ وَمَا يُرَادُ بِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ مَا يَعْقِلُونَ بِهِ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَيَفْهَمُونَ مَغْزَى الْحِكَمِ وَالْآدَابِ.

(مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (٣٣: ٤) .

(وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أَيْ وَتَرَى أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَ الْحَقِّ هُزُؤًا وَلَعِبًا، يُسَارِعُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ قَوْلِ الْإِثْمِ وَعَمَلِهِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَضُرُّ قَائِلَهُ وَفَاعِلَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَفِي الْعُدْوَانِ وَهُوَ الظُّلْمُ وَتَجَاوَزُ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ الَّذِي يَضُرُّ النَّاسَ، وَفِي أَكْلِ السُّحْتِ وَهُوَ الدَّنِيءُ مِنَ الْمُحَرَّمِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَلَمْ يَقُلْ: يُسَارِعُونَ إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُسَارِعَ إِلَى الشَّيْءِ يَكُونُ خَارِجًا عَنْهُ، فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ بِسُرْعَةٍ، وَهَؤُلَاءِ غَارِقُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِنَّمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>