للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِمَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ وَسَيِّءِ الْأَعْمَالِ، وَصَرَّحُوا ثَانِيَةً بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ مَا بَيَّنَاهُ آنِفًا فَالْعَطْفُ فِيهِ عَطْفُ جُمَلٍ مُسْتَأْنَفٌ، وَ (إِنْ) فِي ابْتِدَاءِ مَقُولِ الْقَوْلِ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى " مَا " أَيْ وَقَالَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ: مَا الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَنَذْكُرُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.

(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ قَرِيبًا، وَوَقْفُهُمْ

عَلَى رَبِّهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ وَقْفِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ فِي الْمَوْقِفِ الَّذِي حَاسَبَهُمْ فِيهِ رَبُّهُمْ، وَإِمْسَاكُهُمْ فِيهِ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَا شَاءَ فِيهِمْ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ أَيْ يَقِفُونَ مَطِيَّهُمْ عِنْدِي وُقُوفًا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونُوا فِي مَكَانٍ أَعْلَى مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. أَوِ الْمَعْنَى يَحْبِسُونَهَا عَلَيَّ بِإِمْسَاكِهَا عِنْدِي. وَإِنَّمَا عَدَّى الْوَقْفَ وَالْوُقُوفَ الَّذِي بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَلَيَّ وَكَذَا الْحَبْسُ وَالْإِمْسَاكُ الَّذِي فُسِّرَ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى الْقَصْرِ، قَالَ تَعَالَى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (٥: ٤) أَيْ مِمَّا أَمْسَكَتْهُ الْجَوَرِاحُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهُ لِأَجْلِكُمْ، وَكَذَلِكَ حَبَسُ الْعَقَارِ وَوَقْفُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْبِرِّ فِيهِ مَعْنَى قَصْرِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَالَّذِينَ تَقِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَتَحْبِسُهُمْ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (٣٧: ٢٤) يَكُونُونَ مَقْصُورِينَ عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ يَكُونُ أَمْرُهُمْ مَقْصُورًا عَلَى اللهِ تَعَالَى لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ غَيْرُهُ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٨٢: ١٩) وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي بَيَانِ كَوْنِ اسْتِعْمَالِ " وَقَفَ " هُنَا مُتَعَدِّيًا بِعَلَى بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) (٢٧: ٦) لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اضْطَرَبُوا فِي التَّعْدِيَةِ هُنَا فَحَمَلَ الْكَلَامَ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّمْثِيلِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْكِنَايَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى مَجَازِ الْحَذْفِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَعْرِفَةً وَعِلْمًا وَجَاءَ بَعْضُهُمْ بِتَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهَا.

بَيَّنَّا آنِفًا فِي تَفْسِيرِ (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أَنَّ جَوَابَ " لَوْ " حُذِفَ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَصَوُّرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَلِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهِ نِطَاقُ الْكَلَامِ، وَمِنْ شَأْنِ السَّامِعِ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَنْتَظِرَ بَيَانًا لِمَا يَقَعُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَإِنْ لَمْ يُوَافِهِ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ تَوَجَّهَتْ نَفْسُهُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، فَلِهَذَا جَاءَ الْبَيَانُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) إِدْخَالُ الْبَاءِ عَلَى الْحَقِّ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْمَعْنَى، أَيْ قَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَلَيْسَ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ؟ (قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا) أَيْ بَلَى هَذَا الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا بَاطِلَ يَحُومُ حَوْلَهُ، اعْتَرَفُوا وَأَكَّدُوا اعْتِرَافَهُمْ بِالْيَمِينِ، فَشَهِدُوا بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ، فَبِمَاذَا أَجَابَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ (قَالَ

فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>