(وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا) ، وَلِهَذَا لَمْ يُكَرِّرِ النِّدَاءَ فِيهِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الَّتِي نَفَاهَا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ نَفْسِهِ، هِيَ الَّتِي كَانَ يَظُنُّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ ثُبُوتَهَا لَازِمٌ لِمَنْ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - إِنْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَإِلَّا كَانَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ نَفْيُهَا مُتَضَمِّنًا لِرَدِّ شُبْهَةِ حُجَّتِهِمُ الثَّالِثَةِ ; وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - خَاتَمَ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْيِهَا عَنْ نَفْسِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ٥٠) وَنَخْتَصِرُ فِي تَفْسِيرِهَا هُنَا لِتَفْصِيلِهِ هُنَالِكَ.
أَمَّا خَزَائِنُ اللهِ - تَعَالَى - فَالْمُرَادُ مِنْهَا أَنْوَاعُ رِزْقِهِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا عِبَادُهُ لِلْإِنْفَاقِ مِنْهَا كَمَا قَالَ (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) (١٧: ١٠٠) وَالْمَعْنَى: لَا أَقُولُ لَكُمْ بِادِّعَائِي لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِنَّ عِنْدِي خَزَائِنَ رِزْقِ اللهِ - تَعَالَى - أَتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ وَسَائِلِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِسَائِرِ النَّاسِ، بِحَيْثُ أُنْفِقَ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَنِي بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بَلْ أَنَا وَغَيْرِي مِنَ الْبَشَرِ فِي كَسْبِهَا سَوَاءٌ، إِذْ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِ الرِّسَالَةِ وَلَا مِنْ خَصَائِصِهَا وَوَظَائِفِهَا، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاتَّبَعَ النَّاسُ الرُّسُلَ لِأَجْلِهَا، لَا لِمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ مِنْ تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ بِمَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَتَأْهِيلِهَا لِلِقَائِهِ - تَعَالَى - وَمَثُوبَتِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْغَيْبِ، فَالْمُرَادُ بِهِ امْتِيَازُ النَّبِيِّ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ بِعِلْمِ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمُ الْكَسْبِيُّ مِنْ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَضَارِّهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَكَسْبِهِمْ، فَيُخْبِرُ بِهَا أَتْبَاعَهُ لِيَفْضُلُوا غَيْرَهُمْ بِالتَّبَعِ لَهُ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ أَنْ يَقُولَ لِقَوْمِهِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضُرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) (٧: ١٨٨)
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ نَفْيَ ادِّعَائِهِ الْغَيْبَ يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي أَتْبَاعِهِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، فَهُمْ غَيْرُ مُوقِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ، وَإِنَّمَا يَظُنُّونَ ظَنًّا، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُعْطَ عِلْمَ الْغَيْبِ فَيَحْكُمَ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّاهِرِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ السَّرَائِرَ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ نَفَاهُمَا كِتَابُ اللهِ عَنْ رُسُلِهِ يُثْبِتُهُمَا مُبْتَدِعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ لِمَنْ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ وَالْقِدِّيِّسِينَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا مِرَارًا.
وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ مَلَكًا فَهُوَ دَاحِضٌ لِشُبْهَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ اللهِ إِلَى الْبَشَرِ يَجِبُ أَنْ يَفْضُلَهُمْ وَيَمْتَازَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ، يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ وَيَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُفَصَّلَةٌ وَمُكَرَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَبَيَّنَّا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّامِنِ جُمْلَةَ مَا جَاءَ فِيهَا مَعَ شَوَاهِدِهِ مِنْ غَيْرِهَا فِي ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ) فَرَاجِعْهَا فِي
(ص ٢٤٥ ج٨ وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute