للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَوِ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُهَّانِ، وَمَاذَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ هَذَا التِّبْيَانِ؟ تَبِعَ جَمَاهِيرُهُمْ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ

وَأَضَاعُوا حُجَّةَ دِينِهِمْ بِتَقْلِيدِ فَلَانٍ وَعِلَّانٍ، وَعَكَسُوا الْقَاعِدَةَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ سَلَفِهِمْ وَهِيَ " اعْرِفِ الرِّجَالَ بِالْحَقِّ لَا الْحَقَّ بِالرِّجَالِ " وَلَوْلَا حِفْظُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَتَوْفِيقُهُ سَلَفَ الْأُمَّةِ لِلْعِنَايَةِ بِتَدْوِينِ سُنَّةِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْذُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ بِهَدْيِهِمَا فِي كُلِّ زَمَانٍ، لَضَاعَ مِنَ الْوُجُودِ هَذَا الْإِسْلَامُ كَمَا ضَاعَتْ مَنْ قَبْلِهِ سَائِرُ الْأَدْيَانِ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْ ذَلِكَ وُجُودُ الْأُلُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ الْكَلَامِ.

كَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ صَارَ مَجْهُولًا فِي نَفْسِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءً جُهَّالًا لِلدُّنْيَا وَلِلدِّينِ، فَتَوَاطَأَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اضْطِهَادِ حَمَلَةِ الْحُجَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكَيَاسَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا السِّيَاسَةُ، وَيُحْفَظُ بِهَا أَمْرُ الْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ، وَمَا كَانَ إِلَّا فِتْنَةً لَهُمْ، أَضَاعُوا بِهَا دِينَهُمْ وَمُلْكَهُمْ عَلَى أَيْدِي أَقْوَامٍ مِنْ أُمَمِ الشَّمَالِ، اقْتَبَسُوا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ الْأَوَّلِينَ ذَلِكَ الِاسْتِقْلَالَ فَنَسَخُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ظُلُمَاتِ التَّقْلِيدَ بِنُورِ الِاسْتِدْلَالِ، فَبَلَغُوا مِنَ الْعِزَّةِ وَالسِّيَادَةِ أَوْجَ الْكَمَالِ.

ثُمَّ اسْتَدَارَ الزَّمَانُ فَافْتَتَنَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا رَأَوْا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَلَكِنْ دَاءُ التَّقْلِيدِ الْعُضَالُ لَمْ يُفَارِقْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَطَفِقُوا يُقَلِّدُونَهُمْ فِي الْأَزْيَاءِ وَالْعَادَاتِ وَظَوَاهِرِ الْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ فَازْدَادُوا بِذَلِكَ خِزْيًا عَلَى خِزْيٍ وَضَلَالًا عَلَى ضَلَالٍ; إِذْ هَدَمُوا مُقَوِّمَاتِ أُمَّتِهِمْ وَمُشَخِّصَاتِهَا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُكَوِّنُوهَا بِمُقَوِّمَاتٍ وَمُشَخِّصَاتٍ غَيْرِهَا.

فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ حُجَّةٌ عَلَى مُقَلِّدَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى مُقَلَّدَةِ الْأُورُبِّيِّينَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الدُّنْيَا وَالدِّينَ، وَأَعْجَبُ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجِينَ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ الِاسْتِقْلَالَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مَا يَهْذُوُنَ بِهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، فَهَلُمَّ دَلَائِلَكُمْ عَلَى مَا تَرَكْتُمْ مِنْ هِدَايَةٍ، وَمَا اسْتَحْدَثْتُمْ مِنْ غَوَايَةٍ فَإِنَّنَا لِمُنَاظَرَتِكُمْ مُسْتَعِدُّونَ، وَكَمْ دَعَوْنَاكُمْ إِلَيْهِ وَأَنْتُمْ لَا تُجِيبُونَ؟ .

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) الرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ وَ (الْقَرْنُ) مِنَ النَّاسِ الْقَوْمُ الْمُقْتَرِنُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، جَمْعُهُ قُرُونٌ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى مُفْرَدًا وَجَمْعًا، وَاخْتُلِفَ فِي الزَّمَنِ الْمُحَدِّدِ

لِلْقَرْنِ، فَأَوْسَطُ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: مِائَةٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَقِيلَ سِتُّونَ أَوْ أَرْبَعُونَ، وَالْمَعْقُولُ أَنَّهُ مِقْدَارُ مُتَوَسِّطِ أَعْمَارِ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَنٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَحْدِيدِ الْقَرْنِ بِالْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْقَوْمُ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَهْلِ عَصْرٍ فِيهِمْ نَبِيٌّ أَوْ فَائِقٌ فِي الْعِلْمِ أَوْ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ قَرْنٌ وَإِنِ امْتَدَّ زَمَنُهُ فِيهِمْ زُهَاءَ أَلْفِ سَنَةٍ وَقَوْمُ عَادٍ قَرْنٌ وَقَوْمُ صَالِحٍ قَرْنٌ، وَيُطْلَقُ الْقَرْنُ عَلَى الزَّمَانِ نَفْسِهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>