للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمَشْهُورُ فِي عُرْفِ الْكُتَّابِ الْيَوْمَ أَنَّ الْقَرْنَ مِائَةُ سَنَةٍ. وَ (التَّمْكِينُ) يُسْتَعْمَلُ بِاللَّامِ وَفِي، يُقَالُ: مَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ جَعَلَ لَهُ مَكَانًا فِيهَا وَنَحْوَهُ أَرْضٌ لَهُ، وَمِنْهُ (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) (١٨: ٨٤) وَيُقَالُ: مَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ أَيْ أَثْبَتَهُ فِيهَا، وَمِنْهُ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (٤٦: ٢٦) كَذَا فِي الْكَشَّافِ. قَالَ وَلِتَقَارُبِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ إِنَّ " مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ كَوَهَبَهُ وَوَهَبَ لَهُ "، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ اللَّامُ زَائِدَةٌ كَرِدْفٍ لَهُ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْتِعْمَالَيْنِ.

وَالسَّمَاءُ الْمَطَرُ، وَالْمِدْرَارُ الْمِغْزَارُ فَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الدَّرِّ، وَهُوَ مَصْدَرُ دَرَّ اللَّبَنُ دَرًّا أَيْ كَثُرَ وَغَزُرَ، وَيُسَمَّى اللَّبَنُ الْحَلِيبُ دَرًّا كَالْمَصْدَرِ.

وَالْإِرْسَالُ وَالْإِنْزَالُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْإِرْسَالِ مِنْ رُسُل اللَّبَنِ وَهُوَ مَا يَنْزِلُ مِنَ الضَّرْعِ مُتَتَابِعًا، وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الرِّسْلِ الِانْبِعَاثُ عَلَى التُّؤَدَةِ وَيُقَالُ نَاقَةٌ رَسْلَةٌ سَهْلَةُ السَّيْرِ، وَإِبِلٌ مَرَاسِيلُ مُنْبَعِثَةٌ انْبِعَاثًا سَهْلًا، وَمِنْهُ الرَّسُولُ الْمُنْبَعِثُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْإِرْسَالَ يَكُونُ بِبَعْثِ مَنْ لَهُ اخْتِيَارٌ كَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَبِالتَّسْخِيرِ كَإِرْسَالِ الرِّيحِ وَالْمَطَرِ وَبِتَرْكِ الْمَنْعِ نَحْوَ قَوْلِهِ: (أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ) (١٩: ٨٣) وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُقَابِلُ الْإِمْسَاكَ نَحْوَ (وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ) (٣٥: ٢) .

وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ وَكَوْنُهُ مِمَّا سَبَقَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي الْمُكَذِّبِينَ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَوْمٍ أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ التَّمْكِينِ وَالِاسْتِقْلَالِ فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَابِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مَا لَمْ نُعْطِهِمْ هُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَوَاهِبُ وَالنِّعَمُ بِمَانِعَةٍ لَهُمْ مِنْ عَذَابِنَا لِمَا اسْتَحَقُّوهُ بِذُنُوبِهِمْ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) (٥٤: ٤٣) ؟ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ، فَإِمَّا الْإِيمَانُ وَإِمَّا الْهَلَاكُ.

وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيِ الْقُرُونَ مَا لَمْ نُمَكِّنْهُمْ أَيِ الْكَفَّارَ الْمَحْكِيَّ عَنْهُمُ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْ حَالِهِمْ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ بِالِالْتِفَاتِ عَنِ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِمَا فِي إِيرَادِ الْفِعْلَيْنِ بِضَمِيرَيِ الْغَيْبَةِ مِنْ إِيهَامِ اتِّحَادِ مَرْجِعِهِمَا وَكَوْنِ الْمُثَبَتُ عَيْنَ الْمَنْفِيِّ. فَقِيلَ: مَا لَمْ نُمْكِنْ لَكُمْ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: " مَا لَمْ نُمَكِّنْكُمْ " أَوْ: " وَمَكَّنَا لَهُمْ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ " وَهُوَ مُقْتَضَى الْمُطَابَقَةِ لِنُكْتَةٍ دَقِيقَةٍ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا مِنْ فَقُهَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ جَمَاهِيرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ " وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَعْنَى مَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الشَّيْءِ: جَعَلَهُ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّصَرُّفِ تَامَّ الِاسْتِقْلَالِ فِيهِ. وَأَمَّا مَكَّنَ لَهُ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَمَعَ حَذْفِهِ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (٢٤: ٥٥) وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا) (٢٨: ٥٧) وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) (١٢: ٢١) وَقَوْلِهِ فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) (١٨: ٨٤) فَلَا بُدَّ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>