مِنْ نُكَتِ الْحَذْفِ، كَكَوْنِ الْمَفْعُولِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَامًّا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ، كَأَنْ يُقَالُ: مَكَّنَا لِيُوسُفَ وَلِذِي الْقَرْنَيْنِ فِي الْأَرْضِ جَمِيعَ أَسْبَابِ الِاسْتِقْلَالِ فِي التَّصَرُّفِ.
إِذَا فَقِهْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ احْتِبَاكًا تَقْدِيرُهُ " مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْكُمْ، وَمَكَّنَا لَهُمْ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ " وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَتَمَكُّنًا فِي أَرْضِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ يُوجَدُ حَوْلَهُمْ مَنْ يُضَارِعُهُمْ فِي قُوَّتِهِمْ، وَيَقْدِرُ عَلَى سَلْبِ اسْتِقْلَالِهِمْ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّنَا أَعْطَيْنَاهُمْ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ وَضُرُوبِ التَّصَرُّفِ وَأَنْوَاعِ النِّعَمِ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ. فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَى فُنُونِ الْإِيجَازِ، الَّذِي وَصَلَ فِي الْقُرْآنِ إِلَى أَوْجِ الْإِعْجَازِ، وَيَصْدُقُ كُلٌّ مِنَ التَّمْكِينَيْنِ عَلَى قَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ وَمِنَ التَّارِيخِ الْعَامِّ.
ثُمَّ عَطَفَ عَلَى هَذَا مَا امْتَازَتْ بِهِ الْقُرُونُ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنَ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِمَوَاقِعِ بِلَادِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا) إِرْسَالُ السَّمَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَالْمِدْرَارُ الْغَزِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ (وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ)
أَيْ وَسَخَّرَنَا لَهُمُ الْأَنْهَارَ وَهِيَ مَجَارِي الْمِيَاهِ الْفَائِضَةِ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِجَعْلِهَا تَجْرِي دَائِمًا مِنْ تَحْتِ مَسَاكِنِهِمُ الَّتِي يَبْنُونَهَا عَلَى ضِفَافِهِ، أَوْ فِي الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقِ الَّتِي تَتَفَجَّرُ خِلَالَهَا، فَيَتَمَتَّعُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى جَمَالِهَا، وَبِسَائِرِ ضُرُوبِ الِانْتِفَاعِ مِنْ أَمْوَاهِهَا.
(فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) (أَيْ فَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ لَمَّا كَفَرُوا بِتِلْكَ النِّعَمِ وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ أَنْ أَهْلَكْنَا كُلَّ قَرْنٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَقْتَرِفُونَهَا. وَأَنْشَأْنَا أَيْ أَوْجَدْنَا مِنْ بَعْدِ الْهَالِكِينَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ قَرْنًا آخَرِينَ يُعَمِّرُونَ الْبِلَادَ وَيَكُونُونَ أَجْدَرَ بِشُكْرِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ فِيهَا. وَالذُّنُوبُ الَّتِي يُهْلِكُ اللهُ بِهَا الْقُرُونَ وَيُعَذِّبُ بِهَا الْأُمَمَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) مُعَانَدَةُ الرُّسُلِ وَالْكُفْرُ بِمَا جَاءُوا بِهِ. (وثَانِيهِمَا) كُفْرُ النِّعَمِ بِالْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَغَمْطُ الْحَقِّ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ وَظُلْمُ الضُّعَفَاءِ، وَمُحَابَاةُ الْأَقْوِيَاءِ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ، وَالْغُرُورُ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْكُفْرِ بِنِعَمِ اللهِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ مَا يُرْضِيهِ مِنْ نَفْعِ النَّاسِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ، وَالْأَيَّامُ النَّاطِقَةُ بِتِلْكَ الذُّنُوبِ مُجْتَمِعَةٌ وَمُتَفَرِّقَةٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (٢٨: ٥٨، ٥٩) (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١١: ١٠٢) (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (١٦: ١١٢) (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ١٧: ١٦)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute