للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِثْلَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا رَجَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقُوا بِقُرَيْشٍ، ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ: هَلْ لَنَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ: قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى هَذَا وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ:

(١) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ كَانُوا آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ ثُمَّ أَخَذُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ تَابَ فَاسْتَثْنَى التَّائِبَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا.

(٢) وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ وَكَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ فَلَمَّا بُعِثَ وَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ كَفَرُوا بَغْيًا وَحَسَدًا.

(٣) نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَتَقَدَّمَ خَبَرُهُ.

أَقُولُ: إِنَّ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ دِينُ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ مِنْ أَحَدٍ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِهِ وَجَزَاءَهُمْ وَأَحْكَامَهُمْ وَقَدْ رَآهَا أَصْحَابُ أُولَئِكَ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا صَادِقَةً عَلَى مَنْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ فَذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ. وَأَظْهَرُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ وَأَشَدُّهَا الْتِئَامًا مَعَ السِّيَاقِ رِوَايَةُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَعَهُمْ.

أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ فَهُوَ اسْتِبْعَادٌ

لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَإِيئَاسٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، وَفَسَّرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْهِدَايَةَ بِالْإِلْطَافِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ: بِخَلْقِ الْمَعْرِفَةِ. قَالَهُمَا الرَّازِيُّ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَفَسَّرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِرْشَادِ، فَأَمَّا الْإِرْشَادُ فَقَدْ أُوتُوهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ، وَلَوْلَاهُ لَمَا كَانَ لِإِيمَانِهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ مَعْنًى، وَالصَّوَابُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى اسْتِبْعَادُ هِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ وَإِيئَاسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَوَجْهُ الِاسْتِبْعَادِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ - تَعَالَى - فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْحَقِّ هِيَ أَنْ يُقِيمَ لَهُمُ الدَّلَائِلَ وَالْبَيِّنَاتِ مَعَ عَدَمِ الْمَوَانِعِ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى طَلَبِ الْمَطْلُوبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ ; وَلِذَلِكَ آمَنُوا مِنْ قَبْلُ: وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ثُمَّ كَفَرُوا مُكَابَرَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَمُعَانَدَةً لِلرَّسُولِ حَسَدًا لَهُ وَبَغْيًا عَلَيْهِ. أَوِ الْمَعْنَى: بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ تَكُونُ هِدَايَةُ مَنْ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي تَبَيَّنَ بِهَا الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا لِغَلَبَةِ الْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَكَانُوا بِذَلِكَ ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِاسْتِحْبَابِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى

<<  <  ج: ص:  >  >>