وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَيْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ طَرِيقَتَانِ، إِحْدَاهُمَا شَهَادَتُهُمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ: هِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانُوا عَازِمِينَ عَلَى اتِّبَاعِهِ إِذَا جَاءَ فِي زَمَنِهِمْ، وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِ الْعَلَامَاتُ وَظَهَرَتْ فِيهِ الْبِشَارَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ وَعَانَدُوهُ بَعْدَ مَجِيئِهِ بِالْبَيِّنَاتِ لَهُمْ وَظُهُورِ الْآيَاتِ عَلَى يَدَيْهِ، وَاللهُ لَا يَهْدِي أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْجَانِينَ عَلَيْهَا. وَوَضَعَ الْوَصْفَ الظَّالِمِينَ مَكَانَ الضَّمِيرِ لِبَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنَ الْهِدَايَةِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَجِبُ سُلُوكُهُ لِأَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، فَذَكَرَهُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى الشَّيْءِ بَعْدَ ادِّعَائِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَنَكُّبِ هَؤُلَاءِ بِاخْتِيَارِهِمْ لِطَرِيقِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَقْلُ وَهُدَى النُّبُوَّةِ بَعْدَ مَا عَرَفُوهُ بِالْبَيِّنَاتِ هُوَ نِهَايَةُ الظُّلْمِ. (قَالَ) : وَالْهِدَايَةُ هُنَا هِيَ الَّتِي أُمِرْنَا بِطَلَبِهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَهِيَ الْإِيصَالُ إِلَى الْحَقِّ ;
لِأَنَّ سَائِرَ مَعَانِي الْهِدَايَةِ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ - فَالرَّسُولُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلْجِنْسِ - وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ وَإِخْلَاصِهِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ حُظُوطِ النَّفْسِ وَأَهْوَائِهَا فِي الدِّينِ وَاسْتِبْدَالِهِمْ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ مَا وَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْبِدَعِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: كَيْفَ تَرْجُو يَا مُحَمَّدُ هِدَايَةَ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ لَكَ ظَنًّا أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ جَعَلَتْهُمْ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا جِئْتَ بِهِ بَعْدَمَا عَلِمْتَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِحَقِيقَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وَتَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ. أَقُولُ: وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَهِ الطَّرِيقَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأُمَّةِ كَالشَّخْصِ لِتَكَافُلِهَا كَمَا قَرَّرَهُ مِرَارًا، فَالْمُرَادُ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كُفْرُ مَجْمُوعِ الْحَاضِرِينَ وَأَمْثَالِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِ مَجْمُوعِ سَلَفِهِمْ لَا أَنَّ كَلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَافِرِينَ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ كَفَرَ.
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَعْنَةُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ سُخْطِهِ، وَلَعْنَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ إِمَّا سُخْطُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ هُنَا وَإِمَّا الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَالَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ، وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ مَعْنَى اللَّعْنَةِ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ فَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ " لَعَنَهُ أَهْلُهُ: طَرَدُوهُ وَأَبْعَدُوهُ وَهُوَ لَعِينٌ طَرِيدٌ " وَبِذَلِكَ فَسَّرْنَا الْكَلِمَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ [٢: ٨٨] وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ ذُكِرَ فِيهَا اللَّعْنُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ هُنَاكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَمَا قَالَهُ هُنَا هُوَ التَّفْسِيرُ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ ; فَإِنَّ الطَّرِيدَ لَا يُطْرَدُ إِلَّا وَهُوَ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: " اللَّعْنُ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ. وَذَلِكَ مِنَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ عُقُوبَةٌ وَفِي الدُّنْيَا انْقِطَاعٌ مِنْ قَبُولِ رَحْمَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ. وَمِنَ الْإِنْسَانِ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute