أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [١١: ١٨] وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ [٢٤: ٧] . اهـ. وَقَوْلُهُ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ أَيْ بِالطَّرْدِ لِأَنَّهُ هُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ فِي الْأَصْلِ. وَالْجُمْهُورُ يُفَسِّرُونَ لَعْنَ اللهِ لِمَنْ يَلْعَنُهُ بِطَرْدِهِ مِنْ جَنَّتِهِ أَوْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيِ الْخَاصَّةِ - إِذِ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ مَبْذُولَةٌ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ -
وَيُفَسِّرُونَ السُّخْطَ وَالْغَضَبَ مِنْهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَدُلُّ فِي الْبَشَرِ عَلَى الِانْفِعَالَاتِ تُفَسَّرُ بِآثَارِهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ، وَلَكِنَّ السَّلَفِيِّينَ يُعِدُّونَ هَذَا تَأْوِيلًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ كَغَيْرِهَا شُئُونٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يُدْرِكُ الْبَشَرُ كُنْهَهَا، وَتِلْكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي فُسِّرَتْ بِهَا آثَارُهَا، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ اللُّغَةِ. وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَانَ سَلَفِيَّ الْعَقِيدَةِ فِي سِنِيهِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَفْنَاهُ فِيهَا، فَلَا يُبَالِي بِإِمْضَاءِ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ التَّنْزِيهِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ تَفْسِيرَ مِثْلِ " عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ " بِعَلَيْهِ السُّخْطُ أَقْرَبُ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِعَلَيْهِ الطَّرْدُ، فَمَا قَالَهُ أَقْرَبُ إِلَى الذَّوْقِ الصَّحِيحِ فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [١٦: ١٠٦] فَعَبَّرَ عَنْ وُقُوعِ الْغَضَبِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ بِعَلَى، وَعَنِ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ بِاللَّامِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ لَا يَلْعَنُونَهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَلْعَنُونَهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مَجْلَبَةٌ لِلَّعْنَةِ بِطَبْعِهَا مِنْ كُلِّ مَنْ عَرَفَهَا، وَصَحَّحَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ لَعْنِ الْكَافِرِ وَالْمُبْطِلِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ إِنْ كَانَ لَا يَلْعَنُهُ، كَأَنَّهُ يُفَسِّرُ اللَّعْنَ بِاسْتِحْقَاقِهِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [٢٩: ٢٥] وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنُونَ.
خَالِدِينَ فِيهَا أَيْ فِي اللَّعْنَةِ أَيْ يَكُونُونَ مَطْرُودِينَ، أَوْ مَسْخُوطًا عَلَيْهِمْ إِلَى الْأَبَدِ، أَوْ فِي أَثَرِهِ، وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا ; لِأَنَّ عِلَّتَهُ مَا تَكَيَّفَتْ بِهِ نُفُوسُهُمُ الظَّالِمَةُ، وَهِيَ مَعَهُمْ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَالشَّيْءُ يَدُومُ بِدَوَامِ عِلَّتِهِ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ مِنَ الْإِنْظَارِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ وَالْإِمْهَالُ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ ذَنْبِهِمْ وَتَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الظُّلْمِ الَّذِي
دَنَّسُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَتَرَكُوهُ مُسْتَقْبِحِينَ لَهُ نَادِمِينَ عَلَى مَا أَصَابُوا مِنْهُ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ بِمَا صَارَ لِلْإِيمَانِ الرَّاسِخِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَالتَّصْرِيفِ لِإِرَادَتِهِمْ، أَوْ أَصْلَحُوا نُفُوسَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَمُدُّ الْإِيمَانَ وَتُغَذِّيهِ وَتَمْحُو مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ وَتُثْبِتُ فِيهِ أَضْدَادَهَا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَنَالُهُمْ مِنْ مَغْفِرَتِهِ مَا يُزَكِّي نُفُوسَهُمْ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ، وَيُصِيبُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مَا يُؤَهِّلُهُمْ لِدُخُولِ جَنَّتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute