للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ جَمْعِ إِخْوَةٍ فِي أُخُوَّةِ الدِّينِ فَفِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (٤٩: ١٠) وَسَائِرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي أُخُوَّةِ النَّسَبِ.

(الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ) هَذِهِ الْأُخُوَّةُ الدِّينِيَّةُ مِمَّا يَحْسُدُنَا عَلَيْهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَهِيَ لَا تَزَالُ أَقْوَى فِينَا مِنْهَا فِيهِمْ تَرَافُدًا وَتَعَاوُنًا، وَعَاصِمَةً لَنَا مِنْ فَوْضَى الشُّيُوعِيَّةِ، وَأَثَرَةِ الْمَادِّيَّةِ وَغَيْرِهَا، عَلَى مَا مُنِيَتْ بِهِ شُعُوبُنَا مِنَ الضَّعْفِ وَاخْتِلَالِ النِّظَامِ، وَاخْتِلَافِ الْجِنْسِيَّاتِ وَالْأَحْكَامِ، وَلَقَدْ كَانَتْ فِي عَصْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ اشْتِرَاكِيَّةً اخْتِيَارِيَّةً أَوْسَطُ أَحْوَالِهَا مُسَاوَاةُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَأَعْلَاهَا إِيثَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي أَنْصَارِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ

يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (٥٩: ٩) وَأَمَّا الْمُوَاسَاةُ بِمَا دُونَ الْمُسَاوَاةِ فَقَدْ كَانَتْ عَامَّةً فِي خَيْرِ الْقُرُونِ، ثُمَّ صَارَتْ تَضْعُفُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَلَا يَزَالُ لَهَا بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ هَذَا بَيَانٌ لِلْأَمْرِ الثَّانِي مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ. نَكْثُ الْغَزْلِ أَوِ الْحَبْلِ ضِدُّ إِبْرَامِهِ، وَهُوَ نَقْضُ فَتْلِهِ، وَحَلُّ الْخُيُوطِ الَّتِي تَأَلَّفَ مِنْهَا، وَإِرْجَاعُهَا إِلَى أَصْلِهَا، وَمِنْهُ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا (١٦: ٩٢) وَالْأَيْمَانُ الْعُهُودُ، يَضَعُ كُلٌّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ لِلْعَهْدِ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ الْآخَرِ، أَوْ مَا يُوَثَّقُ مِنْهَا بِالْقَسَمِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَنَكْثُ الْأَيْمَانِ هُنَا يُقَابِلُ فِيمَا قَبْلَهُ اسْتِقَامَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَالطَّعْنُ فِي دِينِنَا فِي الْجُمْلَةِ التَّالِيَةِ يُقَابِلُ فِيمَا فَرَضَ تَوْبَتَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ بِدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَتِهِ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ نَكَثَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَا أَبْرَمَتْهُ أَيْمَانُهُمْ أَوْ مَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ أَيْمَانَهُمْ مِنَ الْوَفَاءِ بَعْدَ عَهْدِهِمُ الَّذِي عَقَدُوهُ مَعَكُمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أَيْ: عَابُوهُ وَثَلَبُوهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي عَابَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَاتِ الْمُقَابِلَةَ لِهَذِهِ، وَمِنْهُ الطَّعْنُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ شُعَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ أَهْدَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دِمَاءَهُمْ، فَهَذَا الْعَطْفُ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْإِسْلَامِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ نَكْثِ الْأَيْمَانِ، وَنَقْضِ السَّلْمِ وَالْوَلَاءِ، كَالْقِتَالِ وَمُظَاهَرَةِ الْأَعْدَاءِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَقْيِيدَ حِلِّ قِتَالِهِمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا (٩: ٤) فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فَقَاتِلُوهُمْ فَهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ أَيْ قَادَةُ أَهْلِهِ وَحَمَلَةُ لِوَائِهِ، فَوَضَعَ الِاسْمَ الظَّاهِرَ الْمُبَيِّنَ لِشَرِّ صِفَاتِهِمْ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَئِمَّةِ الكفرِ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَصَنَادِيدُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ بِعَدَاوَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَقُودُونَهُمْ لِقِتَالِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ قَالَ هَذَا مِنْهُمْ أَبَا سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ مِمَّنْ كَانَ قُتِلَ فِي بَدْرٍ أَوْ بَعْدَهَا، وَذَلِكَ

مِنَ الْغَفْلَةِ بِمَكَانٍ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>