بَعْدَ هَذَا عَادَ إِلَى سَرْدِ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ فَقَالَ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا إِذَا أَفْطَرُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَغَشَّوْنَ النِّسَاءَ إِلَى وَقْتِ النَّوْمِ، فَإِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ صَامَ وَلَوْ كَانَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَصُومُونَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أَنَّ التَّشْبِيهَ يَتَنَاوَلُ كَيْفِيَّةَ الصَّوْمِ، فَوَقَعَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فَشَكَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِبَعْضِهِمْ أَنْ نَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَوَاصَلَ الصَّوْمَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّانِي وَكَانَ عَامِلًا فَأَضْوَاهُ الْجُوعُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ خَبَرُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَسْخَ هُنَا ; فَإِنَّ التَّشْبِيهَ لَيْسَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْفَرْضِيَّةِ لَا فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، مُتَمِّمَةٌ لِأَحْكَامِ الصَّوْمِ، مَبْنِيَّةٌ لِمَا امْتَازَ بِهِ صَوْمُنَا مِنَ الرُّخْصَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَقَالَ: إِذَا صَحَّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَمَا فُرِضَ الصِّيَامُ كَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ يَذْهَبُ فِي فَهْمِهِ مَذْهَبًا كَمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَيَرَاهُ أَحْوَطَ وَأَقْرَبَ إِلَى التَّقْوَى ; وَلِذَلِكَ قَالُوا فِيمَا رَوَوْهُ مِنْ إِتْيَانِ عَمَرَ أَهْلَهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: ((لَمْ تَكُنْ حَقِيقًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ)) .
(أَقُولُ) : أَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى فَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ - بِكَسْرِ الصَّادِ - صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ مَجْهُودًا، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللهُ (أُحِلَّ لَكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) قَالَ فِي لِبَابِ النُّقُولِ: هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ عَنِ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ - وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي الصَّوْمِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ - وَقَوْلُ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ فَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) الْآيَةُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ إِذَا صَامَ الرَّجُلُ فَأَمْسَى فَنَامَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرَ مِنَ الْغَدِ، فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَمَّرَ عِنْدَهُ فَأَرَادَ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ. قَالَ: مَا نِمْتِ، وَوَقَعَ عَلَيْهَا، وَصَنَعَ كَعْبٌ مِثْلَ ذَلِكَ، فَغَدَا عُمَرُ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute