للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِإِهْلَاكِ أَقْوَامِهِمُ الْمُعَانِدِينَ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ فِي الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَالِاتِّكَالِ عَلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ اشْتِدَادِ الْبَأْسِ وَعُرُوضِ أَسْبَابِ الْيَأْسِ. وَمَنْ كَانَ حَظُّهُ مِنْ صِفَاتِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ أَكْبَرَ كَانَ إِلَى نَيْلِ النَّصْرِ أَقْرَبَ إِذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِخَصْمِهِ فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْقِتَالِ وَلَا سِيَّمَا حُسْنُ النِّظَامِ وَجَوْدَةُ السِّلَاحِ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ (رَاجِعْ كَلِمَةَ " نَصْرٍ " مِنْ فَهَارِسِ أَجْزَاءِ التَّفْسِيرِ وَمُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ) .

(وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) مِمَّا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ لِيُؤْمِنُوا فَافْعَلْ أَوْ فَأْتِهِمْ بِهَا، يُقَالُ كَبُرَ عَلَى فُلَانٍ الْأَمْرُ، أَيْ عَظُمَ عِنْدَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ وَقْعُهُ. وَالْإِعْرَاضُ: التَّوَلِّي

وَالِانْصِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ رَغْبَةً عَنْهُ أَوِ احْتِقَارًا لَهُ، وَهُوَ مِنْ إِبْدَاءِ الْمَرْءِ عَرْضَ بَدَنِهِ عِنْدَ تَوَلِّيهِ عَنِ الشَّيْءِ وَاسْتِدْبَارِهِ لَهُ، وَاسْتَطَعْتَ الشَّيْءَ: صَارَ فِي طَوْعِكَ مُنْقَادًا لَكَ بِاسْتِيفَاءِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُمَكِّنُكَ مِنْ فِعْلِهِ، وَالِابْتِغَاءُ: طَلَبُ مَا فِي طَلَبِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ أَوْ تَجَاوُزٌ لِلْمُعْتَادِ أَوْ لِلِاعْتِدَالِ، أَوْ طَلَبُ غَايَاتِ الْأُمُورِ وَأَعَالِيهَا، لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْبَغْيِ وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الطَّلَبِ أَوِ الْحَقِّ. وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ كَابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللهِ وَهُوَ غَايَةُ الْكَمَالِ، وَفِي الشَّرِّ كَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَهُوَ غَايَةُ الضَّلَالِ، وَالنَّفَقُ: السَّرَبُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ حُفْرَةٌ نَافِذَةٌ لَهَا مَدْخَلٌ وَمَخْرَجٌ، كَنَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ، وَهُوَ جُحْرُهُ يَجْعَلُ لَهُ مَنَافِذَ يَهْرُبُ مِنْ بَعْضِهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ مَا يَخَافُهُ. وَالسُّلَّمُ: الْمِرْقَاةُ، مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّهُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إِلَى مِصْعَدِكَ. وَتَذْكِيرُهُ أَفْصَحُ مِنْ تَأْنِيثِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَنَّثُ بِمَعْنَى الْآلَةِ، وَأَتَى بِ " كَانَ " فِعْلًا لِلشَّرْطِ؛ لِيَبْقَى الشَّرْطُ عَلَى الْمُضِيِّ وَلَا يَنْقَلِبَ مُسْتَقْبَلًا كَمَا قَالُوا، فَإِنَّ " إِنَّ " لَا تَقْلِبُ " كَانَ " مُسْتَقْبَلًا لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُضِيِّ. وَالنَّحْوِيُّ يُؤَوِّلُ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ بِنَحْوِ: وَإِنْ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، تَقْدِيرُهُ: فَافْعَلْ كَمَا تَقَدَّمَ.

تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ آتَاهُ اللهُ بَعْضَ مَا طَلَبُوا حِرْصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَأَسَفًا وَحُزْنًا عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى غَوَايَتِهِمْ، وَتَأَلُّمًا مِنْ كُفْرِهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُقْتَرِحِينَ الْجَاحِدِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِنْ رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ مَا يَطْلُبُونَ وَفَوْقَ مَا يَطْلُبُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ أَوَائِلِ السُّورَةِ [رَاجِعْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا ص ٢٥٨ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ] وَقَدْ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُؤَكِّدَ لِرَسُولِهِ مَا يَجِبُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ وَأَذَاهُمُ الدَّالِّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، وَأَنْ يُرِيحَ قَلْبَهُ الرَّءُوفَ الرَّحِيمَ مِنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: وَإِنْ كَانَ شَأْنُكَ مَعَهُمْ أَنَّهُ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَعَنِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ - وَمِنْهَا مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَظَنَنْتَ أَنَّ إِتْيَانَهُمْ بِآيَةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>