وَكَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا مِنْهُمْ، وَالْمُؤْتَفِكَاتُ: جُمَعُ مُؤْتَفِكَةٍ مِنَ الِائْتِفَاكِ: وَهُوَ الِانْقِلَابُ وَالْخَسْفُ وَهِيَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ. وَقَدْ فَصَّلَ التَّنْزِيلُ قِصَصَهُمْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَبَيَّنَ هُنَا خُلَاصَةَ نَبَئِهِمْ وَمَحَلَّ الْعِبْرَةِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أَيْ: فَأَعْرَضُوا عَنْهَا وَعَانَدُوا الرُّسُلَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُوَ الطُّوفَانُ الَّذِي أَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ، وَالرِّيحُ الْعَقِيمُ الَّتِي أَهْلَكَتْ عَادًا قَوْمَ هُودٍ، وَالصَّيْحَةُ الَّتِي أَخَذَتْ ثَمُودَ، وَالْعَذَابُ الَّذِي هَلَكَ بِهِ النَّمْرُودُ الَّذِي حَاوَلَ إِحْرَاقَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْخَسْفُ الَّذِي نَزَلَ بِقُرَى قَوْمِ لُوطٍ وَهُمْ فِيهَا: فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ مَا كَانَ لِيَفْعَلَ كَذَا، مَعْنَاهُ: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ. وَهُوَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْفِعْلِ بِدَلِيلِهِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ أَيْ: فَمَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ، وَلَا مِنْ مُقْتَضَى عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَظْلِمَهُمْ بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ وَأَعْذَرَ إِلَيْهِمْ لِيَجْتَنِبُوهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِجُحُودِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِإِنْذَارِ رُسُلِهِمْ. وَالْمُرَادُ مِنْ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ لِلْكَافِرِينَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْمُجَاهِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، أَنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي عِبَادِهِ وَاحِدَةٌ لَا ظُلْمَ فِيهَا وَلَا مُحَابَاةَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الرُّسُلِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٥٤: ٤٣) ؟ .
وَأَمَّا قَوْمُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ تَعَالَى أَكَابِرَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ غَزْوَةٍ هَاجَمُوهُ فِيهَا وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ، ثُمَّ خَذَلَ اللهُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي سَائِرِ الْغَزَوَاتِ
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٣٣: ٢٦) وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (٥٩: ٢) ثُمَّ صَارَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَمَا زَالُوا يَكِيدُونَ لَهُ فِي السِّرِّ، حَتَّى فَضَحَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَتَابَ أَكْثَرُهُمْ، وَمَاتَ زَعِيمُهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ بِغَيْظِهِ وَكُفْرِهِ، وَلَمْ تَقُمْ لِلنِّفَاقِ قَائِمَةٌ مِنْ بَعْدِهِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَبَأُ مَوْتِهِ، وَلَوْ بَقِيَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَكِيدُونَ بِهَا لِلْإِسْلَامِ لَمَا خَفِيَ أَمْرُهَا عَلَى الْمُؤَرِّخِينَ، كَانَ قَوْمُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِهَذَا التَّمْحِيصِ خَيْرَ أَقْوَامِ النَّبِيِّينَ، نَشَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِمْ أَعْلَامَ هَذَا الدِّينِ، فَسَادُوا بِهِ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ، وَلَوْلَا مَا أَحْدَثَهُ الرَّوَافِضُ الْمُنَافِقُونَ، وَالْخَوَارِجُ الْمَغْرُورُونَ، مِنَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَعَمَّتْ سِيَادَةُ الْإِسْلَامِ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute