فَكُلَّمَا هَمَّتْ عِدَّتُكِ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعْتُكُ، فَذَهَبَتِ الْمَرْأَةُ فَأَخْبَرَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ (رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى) مَا مِثَالُهُ بِإِيضَاحٍ: قَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ الطَّلَاقَ عَلَى الطَّلَاقِ وَذَكَرَ الْعِدَّةَ، وَالطَّلَاقُ هُنَا هُوَ الطَّلَاقُ هُنَاكَ. وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُفَارَقَةِ الْمَرْأَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا، بِحَلِّ الرَّجُلِ عُقْدَةَ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي تَرْبُطُهُمَا مَعًا، وَاللَّفْظُ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى; فَهَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الشَّرْعِ فِي الطَّلَاقِ جَاءَ عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ لِتَقْرِيرِهِ وَتَوْكِيدِهِ كَقَوْلِهِ: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) أَيْ: إِنَّ حَدَّ اللهِ الَّذِي حَدَّهُ لِلطَّلَاقِ وَلَمْ يُخْرِجْ بِهِ الْعِصْمَةَ مِنْ أَيْدِي الرِّجَالِ هُوَ مَرَّتَانِ; أَيْ: طَلْقَتَانِ، وَعَبَّرَ بِالْمَرَّتَيْنِ لِيُفِيدَ أَنَّ الطَّلْقَتَيْنِ تَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَرَّةً تَحِلُّ بِهَا الْعِصْمَةُ ثُمَّ تُبْرَمُ، لَا أَنَّهُمَا يَكُونَانِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَعَلَ كَلِمَةَ (طَلَّقْتُ ثَلَاثًا) بِمَثَابَةِ قَرَأْتُ الْفَاتِحَةَ ثَلَاثًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَالطَّلَاقُ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَهُوَ لَغْوٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَوْلُ: إِنَّ إِنْشَاءَ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا بِالْقَوْلِ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الرَّجُلِ إِيقَاعُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً; ذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ لَا تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْقَوْلِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا، بَلْ وَلَا الْقَوْلِيَّةَ أَيْضًا. فَمَنْ فَسَخَ الْعَقْدَ مَرَّةً وَعَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا فَهُوَ كَاذِبٌ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: الْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ وَالثَّلَاثَةُ وَاحِدٌ. وَمَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَجَاءَ بِهَذَا فَقَدْ خَرَجَ عَنِ السُّنَّةِ وَاسْتَحَقَّ التَّأْدِيبَ. فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَالَ: ((أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟)) حَتَّى قَالَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا أَقْتُلُهُ! قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: رُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ. وَقَدْ صَرَّحَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الطَّلَاقَ الشَّرْعِيَّ هُوَ مَا كَانَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَأَنَّ جَمْعَ الثِّنْتَيْنِ أَوِ الثَّلَاثِ بِدْعَةٌ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي الْأَسْرَارِ: وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةَ، وَهُوَ أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
(قَالَ) : هَذَا هُوَ الطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَبِهَذَا الْعَدَدِ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْبَاتُّ الْبَائِنُ فَلَمْ يَرِدْ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُحَدِّثُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ أَوْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ لَا يُؤْخَذُ
مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى مِنَ الْقُرْآنِ; وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآنِ، وَلَمْ يُذْكَرِ الخِلَافُ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَبِينُ مِنْهُ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَالطَّلَاقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute