هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَوْضُوعِ تَوْبَةِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، أُخِّرَتْ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْرِيقِ الْآيَاتِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ أَدْنَى أَلَّا يَسْأَمَ التَّالِي لَهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَأَقْوَى فِي تَجْدِيدِ الذِّكْرَى وَالتَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مِمَّا يُتَابُ مِنْهُ.
(لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) هَذَا خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِلَامِ الْقَسَمِ عَلَى حَرْفِ التَّحْقِيقِ، بَيَّنَ بِهِ تَعَالَى فَضْلَ عَطْفِهِ عَلَى نَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتَجَاوُزِهِ عَنْ هَفَوَاتِهِمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِي غَيْرِهَا، لِاسْتِغْرَاقِهَا فِي حَسَنَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ عَلَى كَوْنِهِمْ لَا يُصِرُّونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَفَوَاتُهُمْ هَذِهِ مُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيمَا لَمْ يُبَيِّنْهُ اللهُ تَعَالَى بَيَانًا قَطْعِيًّا يُعَدُّ مُخَالِفُهُ عَاصِيًا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (١٠٤) أَنَّ لِلتَّوْبَةِ دَرَجَاتٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِ التَّوَّابِينَ الرَّجَّاعِينَ إِلَى اللهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْهُ، وَتَوْبَتُهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ لَهَا مَعْنَيَانِ: عَطْفُهُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا أَعْلَاهُمَا، وَتَوْفِيقُهُمْ لِلتَّوْبَةِ وَقَبُولُهَا مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَتُوبُونَ مِنْ ذَنْبٍ، وَمَا كُلُّ ذَنْبٍ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ التَّوْبَةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ: (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٩: ٤٣) ؟ الْآيَةَ وَحَقَّقْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَسْأَلَةَ ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَوْنِهَا مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَمْ يُقِرَّهُمُ اللهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَهُمْ خُلَّصُ الْمُؤْمِنِينَ (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ التَّثَاقُلَ فِي الْخُرُوجِ حَتَّى وَرَدَ الْأَمْرُ الْحَتْمُ فِيهِ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى التَّثَاقُلِ إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ ذَنْبُهُمُ السَّمَاعَ لِلْمُنَافِقِينَ فِيمَا كَانُوا يَبْغُونَ مِنْ فِتْنَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِدْرَاكِ، وَبِالْفِعْلِ.
فَأَمَّا الْعُسْرَةُ فَهِيَ الشِّدَّةُ وَالضِّيقُ. وَكَانَتْ عُسْرَةً فِي الزَّادِ إِذْ كَانَتْ عِنْدَ انْتِهَاءِ فَصْلِ الصَّيْفِ الَّذِي نَفِدَتْ فِيهِ مُؤْنَتُهُمْ، وَأَوَّلَ فَصْلِ الْخَرِيفِ الَّذِي بَدَأَ فِيهِ إِرْطَابُ الْمَوْسِمِ الْجَدِيدِ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَكَانَ يَكْتَفِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَوِ الِاثْنَانِ بِالتَّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ التَّمْرِ الْقَدِيمِ وَمِنْهُ الْمَمْدُودُ وَالْيَابِسُ، وَقَدْ تَزَوَّدَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا بِالشَّعِيرِ الْمُسَوَّسِ وَالْإِهَالَةِ الزَّنِخَةِ، وَعُسْرَةً فِي الْمَاءِ حَتَّى كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَعِيرَ عَلَى قِلَّةِ الرَّوَاحِلِ لِيَعْتَصِرُوا الْفَرْثَ الَّذِي فِي كَرِشِهِ وَيَبِلُّوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ، وَعُسْرَةً فِي الظَّهْرِ حَتَّى كَانَ الْعَشَرَةُ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا وَاحِدًا، وَعُسْرَةً فِي الزَّمَنِ إِذْ كَانَ فِي حِمَارَةِ الْقَيْظِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ ; وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِسَاعَةِ الْعُسْرَةِ لِلتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الْعَصِيبِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ: عُسْرَةُ الظُّهْرِ وَعُسْرَةُ الزَّادِ وَعُسْرَةُ الْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute