للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيُصْلِحُ مَا أَفْسَدَ فِيهِ أَهْلُهُ وَغَيْرُ أَهْلِهِ، وَيُعِيدُونَ بِنَاءَ مَا هُدِمَ مِنْ شَرْعِهِ، وَرَفْعَ عِمَادِ مَائِلٍ مِنْ عَرْشِهِ، وَلَوْ بِإِزَالَةِ الْعِلَلِ وَالْمَوَانِعِ وَتَمْهِيدِ السَّبِيلِ لِذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَا يَنْتَظِرُهُ الْجَمَاهِيرُ مِنْ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ أَنْ خَابَتِ الْآمَالُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْمَهْدِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ أَرَانَا فِي تَارِيخِنَا مِصْدَاقَ قَوْلِ رَسُولِهِ " إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ " وَقَوْلِهِ: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ الْإِسْلَامَ بِرِجَالٍ مَا هُمْ مِنْ أَهْلِهِ " أَفَيَضِيقُ عَلَى فَضْلِهِ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامًا مُكَرَّرًا وَيُؤَيِّدُ اللهُ الْإِسْلَامَ بِقَوْمٍ لَيْسُوا بِكَافِرِينَ كَمَلَاحِدَةِ هَذَا الْعَصْرِ الْمَعْرُوفِينَ، وَلَا كَالصَّحَابَةِ مُؤْمِنِينَ كَامِلِينَ، بَلْ بَيْنَ ذَلِكَ كَخِيَارِ هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مِنَ السِّرِّ فِي وَصْفِ الْقَوْمِ فِي الْآيَةِ بَعْدَ الْكُفْرِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ! فَافْهَمْ.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) الْهُدَى ضِدُّ الضَّلَالِ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي مَقَامِ الدِّينِ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ نَطْلُبُهُ فِي صَلَاتِنَا، وَعَلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي السَّيْرِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْهُدَى وَالْهِدَايَةُ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ قَدْ خَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَفْظَةَ الْهُدَى بِمَا تَوَلَّاهُ وَأَعْطَاهُ وَاخْتُصَّ هُوَ بِهِ دُونَ مَا هُوَ إِلَى الْإِنْسَانِ انْتَهَى. وَهُوَ لَا يَصِحُّ مُطَّرِدًا. وَالِاقْتِدَاءُ فِي اللُّغَةِ السَّيْرُ عَلَى سُنَنِ مَنْ يُتَّخَذُ قُدْوَةً أَيْ مِثَالًا يُتْبَعُ. وَهُوَ لَا يَصِحُّ مُطَّرِدًا. قَالَ فِي

اللِّسَانِ: يُقَالُ قُدْوَةٌ وَقِدْوَةٌ لِمَا يُقْتَدَى بِهِ، ابْنُ سِيدَهْ: الْقُدْوَةُ وَالْقِدْوَةُ مَا تَسَنَّنْتَ بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدِ اقْتَدَى بِهِ وَالْقُدْوَةُ الْأُسْوَةُ. اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا بِتَثْلِيثِ الْقَافِ. بَعْدَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ نَعْلَمَ مَا يَكُونُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ وَمَا لَا يَكُونُ وَلَا سِيَّمَا اقْتِدَاءُ النَّبِيِّ - الْمُرْسَلِ بِالشَّرْعِ الْأَكْمَلِ - بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعُهُ، فَأَمَّا الْعِلْمُ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ وَبِسَائِرِ أُصُولِ الدِّينِ وَعَقَائِدِهِ كَالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَأَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فَكَانَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا وَبُرْهَانِيًّا لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ فِيهِ بِمَنْ قَبْلَهُ وَلَا هُوَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ١٦: ١٢٣ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمِلَّةَ الَّتِي أَوْحَاهَا إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهَا - وَهِيَ الْعَقِيدَةُ وَأَصْلُ الدِّينِ - هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُهَا لِأَمْرِ اللهِ لَا لِأَنَّهَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ لَيْسَتْ مِمَّا عَلِمَهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِالتَّلَقِّي عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ، وَلَا بِالنَّقْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاقِلًا ذَلِكَ عَنِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَشْهُورِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُوَحِّدًا حَنِيفًا. وَأَمَّا الشَّرَائِعُ الْعَمَلِيَّةُ فَلَا يَقْتَدِي فِيهَا الرَّسُولُ بِأَحَدٍ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>