يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ
هَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَيَانِ شَأْنٍ آخَرَ مِنْ شُئُونِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي كَشَفَتْ سَوْأَتَهُمْ فِيهَا غَزْوَةُ تَبُوكَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ:
يَقُولُونَ الْقَوْلَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ عَسَى أَلَّا يُفْشَى عَلَيْنَا هَذَا. وَأَخْرَجُوا إِلَّا الْأَوَّلَ مِنْهُمْ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ فَاضِحَةَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: الْمُنْبِئَةُ أَنْبَأَتْ بِمَثَالِبِهِمْ وَعَوْرَاتِهِمْ.
الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ (يَحْذَرُ) خَبَرٌ عَلَى ظَاهِرِهَا. وَعَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهَا إِنْشَائِيَّةٌ فِي الْمَعْنَى أَيْ لِيَحْذَرُوا ذَلِكَ. وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَالْحَذَرُ كَالتَّعَبِ: الِاحْتِرَازُ وَالتَّحَفُّظُ مِمَّا يُخْشَى وَيُخَافُ مِنْهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ وَأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ (فِي مَادَّتَيْ حَ ذَ رَ، وَحَ رَ زَ) وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْحَذَرُ مِنْهُمْ، وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِالْوَحْيِ، وَأَجَابَ أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْحَذَرَ اسْتِهْزَاءً، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ فِي الْوَحْيِ وَرِسَالَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمْ يَكُونُوا مُوقِنِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا مِنَ الْكُفْرِ، فَهُمْ مُذَبْذَبُونَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ وَالْكَافِرِينَ الْجَازِمِينَ بِالْكُفْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ شَكُّهُ قَوِيًّا، وَمَنْ كَانَ شَكُّهُ ضَعِيفًا. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ حَالِهِمْ وَبَيَانُ أَصْنَافِهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ بَلَاغَةِ الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللهُ تَعَالَى لَهُمْ. وَهَذَا الْحَذَرُ وَالْإِشْفَاقُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ، فَلَوْ كَانُوا مُوقِنِينَ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَا خَطَرَ لَهُمْ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى بَالٍ. وَلَوْ كَانُوا مُوقِنِينَ بِتَصْدِيقِهِ لَمَا كَانَ هُنَاكَ مَحَلٌّ لِهَذَا الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ؛ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ مُطَمْئِنَةٌ بِالْإِيمَانِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ضَمِيرِ (عَلَيْهِمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِلْمُنَافِقِينَ الْمَذْكُورِينَ، وَالْمُرَادُ بِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ نُزُولُهُ فِي شَأْنِهِمْ، وَبَيَانُ كُنْهِ حَالِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute