للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْخَبِيثَةُ الَّتِي يَفْضَحُهَا الْحَقُّ وَيُظْهِرُ بَاطِلَهَا الَّذِي تُحِبُّ سَتْرَهُ، وَالِاسْتِرْسَالَ فِيمَا هِيَ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْجَاهِ الْبَاطِلِ; فَإِنَّ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ لَا تَزِيدُهَا إِلَّا مُمَارَاةً وَجَدَلًا فِي الْقَوْلِ وَجُحُودًا وَعِنَادًا بِالْفِعْلِ. هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ عَامَّةً، لَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً، كَذَلِكَ كَانَ وَكَذَلِكَ يَكُونُ وَسَيَكُونُ وَسَوْفَ يَكُونُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ.

وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ، فَهُوَ أَنَّهَا هَادِيَةٌ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا آنِفًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْكُمْ بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالِاعْتِصَامِ بِالْإِسْلَامِ فِي جُمْلَتِهِ، لَا تُفَرِّقُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَتَكُونُوا شِيَعًا، كَيْلَا يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَهَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَحَالُهُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْكُمْ، فَسَلُوهُمْ حَالَهُمْ، وَاسْتَنْطِقُوا آثَارَهُمْ وَاقْرَءُوا تَارِيخَهُمْ تَرَوْا أَنَّهُمْ أُوتُوا نَحْوًا مِمَّا أُوتِيتُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَأُمِرُوا كَمَا أُمِرْتُمْ بِالِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ، فَتَفَرَّقُوا إِلَى مَذَاهِبَ وَشِيَعٍ، وَزَلُّوا عَنْ صِرَاطِ اللهِ فَتَفَرَّقَتْ بِهِمُ السُّبُلُ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِعِزَّتِهِ وَنَفَّذَ فِيهِمْ حُكْمَ سُنَّتِهِ، وَزَالَ سُلْطَانُهُمْ، وَلَفِظَتْهُمْ أَوْطَانُهُمْ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَمُزِّقُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مُمَزَّقٍ.

وَالْآيَةُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ عِبْرَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لَا حِكَايَةٌ تَارِيخِيَّةٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنْ هَلْ يَعْتَبِرُ بِهَا الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الْقُرْآنِ؟ وَهَلْ يَفْهَمُونَ مِنْهَا أَنَّ مُلْكَهُمُ الَّذِي يَتَقَلَّصُ ظِلُّهُ عَنْ رُءُوسِهِمْ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَعِزَّهُمُ الَّذِي تَتَخَطَّفُهُ مِنْهُمْ حَوَادِثُ الْأَيَّامِ مَا بَدَّلَهُمَا اللهُ تَعَالَى إِلَّا بَعْدَ مَا بَدَّلُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (٣: ١٠٣) وَ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (٨: ٥٣) كَلَّا إِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا هَذَا وَلَوْ تَغَنَّوْا وَتَرَنَّمُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي كُلِّ مَأْتَمٍ وَكُلِّ مَوْسِمٍ، وَإِنَّ رُؤَسَاءَهُمْ لَا يَمْقُتُونَ أَحَدًا مَقْتَهُمْ لِمَنْ يُذَكِّرُهُمْ بِهِ، وَإِنَّ أَكْثَرَ عَامَّتِهِمْ تَبَعٌ لِهَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ كَمَا كَانَ بَنُو

إِسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ السَّاكِنِينَ مِنْهُمْ عَلَى جَمِيعِ مَا مُنِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْمُدَافِعِينَ عَنِ الْفَاسِقِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ عَلَى إِيذَاءِ الْوَاعِظِينَ النَّاصِحِينَ، بِاسْمِ الْمُدَافِعَةِ عَنِ الدِّينِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَمْ يُفْرِطْ فِيهِ الْكِتَابُ الْمُبِينُ بَلْ هُوَ مَا هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) هَذَا بَيَانٌ مُعَلِّلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْوَعِيدِ لِمَنْ يُبَدِّلُ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا، وَلَا سِيَّمَا نِعْمَةُ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي هِدَايَةِ الْمِلَّةِ إِلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، فَالْكُفْرُ فِيهَا هُوَ كُفْرُ النِّعْمَةِ لَا إِنْكَارُ وُجُودِ اللهِ تَعَالَى وَلَا الشَّرَكُ بِهِ كَمَا زَعَمَ (الْجَلَالُ) وَغَيْرُهُ، وَسَبَبُهُ الِافْتِتَانُ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ، وَإِيثَارُهَا عَلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْأَمْرِ بِالِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ

<<  <  ج: ص:  >  >>