للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَكُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ، وَأَكْثَرُهُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مُتَفَرِّقًا ثُمَّ مُجْمَلًا فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْهَا، وَهُوَ الْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَيُونُسُ، (وَالثَّانِي) مَا يَعُمُّ تَفْصِيلَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطِّوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَيْضًا.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ، هَذَا تَفْسِيرٌ أَوْ بَيَانٌ لِأَوَّلِ مَا أُحْكِمَتْ وَفُصِّلَتْ بِهِ وَلَهُ الْآيَاتُ: أَيْ بِأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، أَوْ لِئَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، وَهُوَ أَنْ تَجْعَلُوا عِبَادَتَكُمْ لَهُ وَحْدَهُ، لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَهَذَا مَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي قِصَصِ الرُّسُلِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْجَمْعَ بَيْنَ طَرَفَيِ التَّوْحِيدِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) وَهُوَ تَبْلِيغٌ لِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ مُبَيِّنٌ

لِوَظِيفَةِ الرَّسُولِ، وَهِيَ إِنْذَارُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى شِرْكِهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَتَبْشِيرُ مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى بِالسَّعَادَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَقَدَّمَ الْإِنْذَارَ لِأَنَّ الْخِطَابَ وُجِّهَ أَوَّلًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَنَظِيرِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَسُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْمُبَلِّغُ هَذَا هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ وَأَنِ اسْأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْإِجْرَامِ وَالظُّلْمِ (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أَيْ ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ - عَنْهُ وَعَنْ آيَاتِهِ - يَعْرِضُ لَكُمْ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، نَادِمِينَ مُنِيبِينَ مُصْلِحِينَ لِمَا أَفْسَدْتُمْ، مُسْتَدْرِكِينَ مَا قَصَّرْتُمْ، عَطَفَ التَّوْبَةَ بِـ (ثُمَّ) لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْعَمَلِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقَوْلِ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الذَّنْبِ، وَسَيَأْتِي مَثَلُهُ فِي قِصَّةِ كُلٍّ مِنْ هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَشُعَيْبٍ (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) الْمَتَاعُ: كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمَعِيشَةِ وَحَاجَةِ الْبُيُوتِ، وَالْإِمْتَاعُ وَالتَّمْتِيعُ: إِعْطَاءُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ تَمَتُّعًا طَوِيلًا مُمْتَدًّا، وَأَمَّا وَصْفُهُ - تَعَالَى - لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَتَمَتُّعِ أَهْلِهَا بِهَا بِالْقَلِيلِ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عِنْدَ كُلِّ ذَنْبٍ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْ هِدَايَتِهِ، وَتَنَكُّبٍ عَنْ سُنَّتِهِ، يُمَتِّعْكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا مُرْضِيًا مُمْتَدًّا (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) عِنْدَهُ وَهُوَ الْعُمُرُ الْمُقَدَّرُ لَكُمْ فِي عِلْمِهِ، الْمَكْتُوبُ فِي نِظَامِ الْخَلِيقَةِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي عِبَادِهِ، فَلَا يَقْطَعُهُ إِهْلَاكُكُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَلَا بِفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَسَلْبِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يُنَغِّصُهُ كُلُّ مَا يُنَغِّصُ حَيَاةَ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِتَنْغِيصِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَسَلْبِ النِّعَمِ مِنْ أَهْلِهَا أَسْبَابًا تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً إِلَّا لِأَنَّهَا ضَارَّةٌ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ، أَوْ مُزِيلَةٌ لِلْحَيَاةِ أَوْ لِلْعَقْلِ أَوْ لِلصِّحَّةِ أَوْ لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْمَالِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَفْسَدَةً بِإِصْرَارِ فَاعِلِيهَا عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ يَنْدَمُ وَيُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ قَرِيبٍ، وَيُصْلِحُ مَا نَجَمَ مِنْ فَسَادِهَا بِالْعَمَلِ الْمُضَادِّ لَهُ، امْتَنَعَ ذَلِكَ الْفَسَادُ وَزَالَ أَثَرُهُ ; وَلِهَذَا اشْتَرَطَ فِي التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ مَا اشْتَرَطَ

<<  <  ج: ص:  >  >>