للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ فَهُوَ يُنَزِّلُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْكُتُبِ وَيُعْطِيهِمْ مِنَ الْمَوَاهِبِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ صَلَاحَهُمْ إِذَا أَقَامُوهُ. وَيَعْلَمُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ فِي سِرِّهِمْ وَجَهْرِهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ وَأَمْرُ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ وَلَا حَالُ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ وَاسْتَبْطَنَ النِّفَاقَ وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالْإِيمَانِ، وَكَأَنَّ هَذَا الِاسْتِئْنَافَ الْبَيَانِيَّ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِاسْتِئْنَافٍ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ الْأَرْحَامُ: هُوَ جَمْعُ رَحِمٍ وَهُوَ مُسْتَوْدَعُ الْجَنِينِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَمَنْ عَرَفَ مَا فِي تَصْوِيرِ الْأَجِنَّةِ فِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْحِكَمِ وَالنِّظَامِ عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ. وَأَذْعَنَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ عَالَمٍ خَبِيرٍ بِالدَّقَائِقِ، حَكِيمٍ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَبَثُ عَزِيزٍ لَا يُغْلَبُ عَلَى مَا قَضَى بِهِ عِلْمُهُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ، وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي إِبْدَاعِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

وَإِذَا فَهِمْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ فِي نَفْسِهَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا - كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ - إِنَّهَا نَزَلَتْ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى نَحْوِ ثَمَانِينَ آيَةً فِي نَصَارَى نَجْرَانَ، إِذْ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا فَذَكَرُوا عَقَائِدَهُمْ وَاحْتَجُّوا عَلَى التَّثْلِيثِ وَأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ بِكَوْنِهِ خُلِقَ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ الَّتِي عُرِفَتْ فِي تَوَالُدِ الْبَشَرِ، وَبِمَا جَرَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَبِالْقُرْآنِ نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ

الْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - غَيْرَ جَازِمٍ بِهِ - وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي تَفْسِيرِهَا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَمَّا مَا قَالَهُ فِي تَوْجِيهِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فَهُوَ بَدَأَ بِذِكْرِ تَوْحِيدِ اللهِ لِيَنْفِيَ عَقِيدَتَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ وَصَفَهُ بِمَا يُؤَكِّدُ هَذَا النَّفْيَ كَقَوْلِهِ: الْحَيُّ الْقَيُّومُ أَيِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَهِيَ قَدْ وُجِدَتْ قَبْلَ عِيسَى فَكَيْفَ تَقُومُ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنْ قَالَ نَزَّلَ الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ لِبَيَانِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ أَنْزَلَ الْوَحْيَ وَشَرَّعَ الشَّرِيعَةَ قَبْلَ وُجُودِ عِيسَى كَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ وَأَنْزَلَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُنَزِّلَ لِلْكُتُبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ نَبِيًّا مِثْلَهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَهَبَ الْعَقْلَ لِلْبَشَرِ لِيُفَرِّقُوا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَعِيسَى لَمْ يَكُنْ وَاهِبًا لِلْعُقُولِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ السَّائِلِينَ تَجَاوَزُوا حُدُودَ الْعَقْلِ. أَقُولُ: وَفِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَهُوَ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْكُتُبِ وَالْفُرْقَانِ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْوَلَدِ وَالْحُلُولِ أَوِ الِاتِّحَادِ بِأَحَدٍ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ. قَالَ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ رَدٌّ لِاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى أُلُوهِيَّةِ عِيسَى بِإِخْبَارِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَهُوَ يُثْبِتُ أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ، وَعِيسَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ إِلَخْ رَدٌّ لِشُبْهَتِهِمْ فِي وِلَادَةِ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ، أَيِ الْوِلَادَةُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ لَيْسَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>