إِيَّاهُمْ عَنْهُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ تَرَى أَسَاطِينَ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَفْهَمُوا مِنَ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا جَوَابًا عَنِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنِ اقْتِرَاحِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ آخَرَ، وَقَدْ هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَعَ بُرْهَانِهِ بِفَضْلِهِ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخَرِ! !
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) هَذِهِ تَتِمَّةُ الرَّدِّ عَلَى اقْتِرَاحِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَهُوَ أَنَّ تَبْدِيلَ الْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا مِمَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِهِ، بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ إِنْ فُرِضَ وُقُوعُهُ مِنْهُ - لِأَنَّهُ كَلَامُهُ الْخَاصُّ بِهِ - وَثَانِيًا بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ عَزَّزَ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ بِثَالِثَةٍ أَدَبِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ شَرَّ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ فِي الْبَشَرِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ، وَهُوَ مَا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْهِ بِجُحُودِهِمْ، وَثَانِيهِمَا التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللهِ، وَهُوَ مَا اجْتَرَحُوهُ بِإِجْرَامِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ عِنْدَ اللهِ وَأَجْدَرُ بِغَضَبِهِ وَعِقَابِهِ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ
مِنَ الظَّالِمِينَ، وَأَنَا أَنْعِي عَلَيْكُمُ الثَّانِيَ مِنْهُمَا، فَكَيْفَ أَرْضَى لِنَفْسِي بِالْأَوَّلِ وَهُوَ شَرٌّ مِنْهُ؟ وَأَيُّ فَائِدَةٍ لِي مِنْ هَذَا الْإِجْرَامِ الْعَظِيمِ وَأَنَا أُرِيدُ الْإِصْلَاحَ وَأَدْعُو إِلَيْهِ وَأَحْتَمِلُ الْمَشَاقَّ فِي سَبِيلِهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أَيْ لَا يَفُوزُونَ بِمَطْلُوبِهِمُ الَّذِي يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ٢١ و٩٣ و١٤٤) وَفِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ٣٧) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ فِي ج ٨ تَفْسِيرِ) .
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
هَذِهِ الْآيَةُ فِي دَحْضِ شُبْهَتِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَهِي الشَّفَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ بُطْلَانُهَا وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ وَحْدَهُ، وَصَرَّحَ هُنَا بِإِسْنَادِ هَذَا الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ وَبِاحْتِجَاجِهِمْ عَلَيْهِ بِالشَّفَاعَةِ. ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ الْحُجَّةَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ فَقَالَ:
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) الْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ بَيَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute