للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شِرْكِهِمْ وَسَخَافَتِهِمْ فِيهِ، وَمُكَابَرَتِهِمْ فِي جُحُودِ الْحَقِّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الْوَحْيُ، أَيْ وَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَيْ غَيْرِ اللهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَجَاوِزِينَ مَا يَجِبُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، لَا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا وَحْدَهَا، فَمَا مَعْنَى كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢: ١٠٦) وَفِي وَصْفِهَا بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ إِيذَانٌ بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا وَضَلَالِهِمْ فِيهِ، وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَفْعِ مَنْ يَعْبُدُهُ، وَضُرِّ مَنْ يَكْفُرُهُ، وَيُشْرِكُ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَأَصْلُ غَرِيزَةِ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ فِي الْبَشَرِ، فِي سَذَاجَتِهِمُ الَّتِي لَا تَلْقِينَ فِيهَا لِحَقٍّ وَلَا

بَاطِلٍ، هِيَ الشُّعُورُ الْبَاطِنُ بِأَنَّ فِي الْوُجُودِ قُوَّةً غَيْبِيَّةً وَسُلْطَانًا عُلْوِيًّا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ بِالنَّفْعِ لِمَنْ شَاءَ، وَإِيقَاعِ الضُّرِّ عَلَى مَنْ شَاءَ وَكَشْفِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَمَّنْ شَاءَ، غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِلنَّاسِ، فَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى تَوَارِيخِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ حَيَاتِهِمُ الْبَدَوِيَّةِ وَالْحَضَرِيَّةِ، يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ التَّدَيُّنِ الْغَرِيزِيِّ فِيهِمْ، وَأَمَّا صُوَرُ التَّعَبُّدِ وَتَسْمِيَةُ الْمَعْبُودَاتِ فَمِنْهَا مَا هُوَ مِنِ اجْتِهَادِهِمْ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ تَلْقِينِ دُعَاةِ الدِّينِ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. فَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّمَا عَبَدَهُ مَنْ عَبَدَهُ لِشُبْهَةٍ فَهِمَ مِنْهَا قُدْرَتَهُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُلْطَانٍ لَهُ فَوْقَ الْأَسْبَابِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَوَّلُهَا تَفْسِيرُ الْعِبَادَةِ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَوْسَطُهَا وَأَبْسَطُهَا تَفْسِيرُ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِيهِ آزَرَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْ آخِرِهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا جَاءَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الْخَوَارِقِ مِنْ بَحْثِ الْوَحْيِ الِاسْتِطْرَادِيِّ.

فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ - هُوَ بَيَانَ عَجْزِهَا عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا جَمَادَاتٌ مَصْنُوعَةٌ كَالْأَوْثَانِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ، وَالْأَصْنَامِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَكَذَا الْحِجَارَةِ، أَوْ غَيْرُ مَصْنُوعَةٍ كَاللَّاتِ وَهِيَ صَخْرَةٌ كَانَتْ بِالطَّائِفِ يُلَتُّ عَلَيْهَا السَّوِيقُ ثُمَّ عُظِّمَتْ حَتَّى عُبِدَتْ، وَإِمَّا أَشْجَارٌ كَالْعُزَّى مَعْبُودَةِ قُرَيْشٍ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي قَطَعَهَا الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي نَجْدٍ، وَشَجَرَةِ الْمَنْضُورَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا النِّسَاءُ فِي مِصْرَ لِأَجْلِ الْحَبَلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ قَدْ وُضِعَتْ ذِكْرَى لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْبَشَرِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ عِبَادَتُهُمْ إِلَى الْعَرَبِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِيهَا أَرْوَاحًا مِنَ الْجِنِّ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ قَطْعِ شَجَرَةِ الْعُزَّى أَوْ شَجَرَاتِهَا الثَّلَاثِ، إِذْ ظَهَرَتْ عِنْدَ قَطْعِهَا لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا جِنِّيَّةٌ، فَأَرَادَتْ أَنْ تُوَاثِبَهُ وَتُخِيفَهُ فَقَتَلَهَا، فَهِيَ كَالْقُبُورِ الَّتِي تُشَرَّفُ وَتُجَصَّصُ وَيُوضَعُ عَلَيْهَا السُّتُورُ وَتُبْنَى عَلَيْهَا الْقِبَابُ، لِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي وَضَعُوا لَهُ تَمَاثِيلَ الْأَوْثَانِ، وَعَبَدَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>