(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) هَذَا الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ أُمَّةِ الرَّسُولِ أَوْ قَوْمِهِ الَّذِينَ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَجِيئِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَبِفَضَائِلِهِ الْعَائِدَةِ عَلَيْهِمْ، إِلَى خِطَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ فِي شَأْنِهِ، يَقُولُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا وَانْصَرَفُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أَيْ هُوَ مُحْسِبِي الَّذِي يَكْفِينِي أَمْرَ تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ عَدَاوَتِهِمْ لِي وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِهِ وَقَدْ بَلَّغْتَ وَمَا قَصَّرْتَ (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيْ لَا مَعْبُودَ غَيْرُهُ أَلْجَأُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ كَمَا يَلْجَئُونَ إِلَى آلِهَتِهِمُ الْمُنْتَحَلَةِ (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) وَحْدَهُ، فَلَا أَكِلُ أَمْرِي فِيمَا أَعْجِزُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَكَيْفَ لَا أَخُصُّهُ بِالتَّوَكُّلِ (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الَّذِي هُوَ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْخَلْقِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ السُّورَةِ التَّالِيَةِ، (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (١٠: ٣) قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ " (الْعَظِيمِ) " بِالْخَفْضِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِرَبِّ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَعَظَمَةُ الْعَرْشِ بِعَظَمَةِ الرَّبِّ الَّذِي اسْتَوَى عَلَيْهِ وَعَظَمَةُ الْمُلْكِ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ مَرْكَزُ تَدْبِيرِهِ، وَوَحْدَةُ النِّظَامِ فِيهِ، وَعَظَمَتُهُمَا فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَفِيمَا دُونَهُ هِيَ الْمَظْهَرُ الْوُجُودِيُّ لِعَظَمَةِ هَذَا الرَّبِّ الَّتِي لَا تُحَدُّ، وَلَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا أَحَدٌ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ وَلَا يُتَوَكَّلُ عَلَى سِوَاهُ، وَكَيْفَ يَعْبُدُ غَيْرُهُ بِالدُّعَاءِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَتَوَكَّلُ عَلَى سِوَاهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمَالِكُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ وَالْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِ، وَيُرَاجَعُ هُنَا تَفْسِيرُ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) (٨: ٦٤) (فِي ص ٦٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ)
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْعَرْشَ هُنَا
بِالْمُلْكِ (بِالضَّمِّ) لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَجَوُّزًا وَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ هَذَا التَّجَوُّزَ لَا مُسَوِّغَ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ فِي كُلِّ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا اللَّفْظُ، وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ أَبْلَغُ مِنْهُ وَأَعَمُّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَزِيَادَةٍ ; إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُلْكٍ فِي الْأَرْضِ عَرْشٌ حَقِيقِيٌّ هُوَ الْمَرْكَزُ الْوَحِيدُ لِتَدْبِيرِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ، فَالْعَرْشُ الْعَظِيمُ يَدُلُّ عَلَى الْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَعَلَى وَحْدَةِ النِّظَامِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ، وَلَفْظُ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْخَلَلِ فِيهِ، وَكَوْنُ تَدْبِيرِهِ لَيْسَ لَهُ مَرْجِعُ وَحْدَةٍ تَكْفُلُ النِّظَامَ، وَتَمْنَعُ الْخَلَلَ وَالْفَسَادَ، وَنُظَّارُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمُفَسِّرُوهُمْ يَتَأَوَّلُونَ الْعَرْشَ وَالِاسْتِوَاءَ عَلَيْهِ فِرَارًا مِنَ التَّشْبِيهِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ بِزَعْمِهِمُ الْمَبْنِيِّ عَلَى قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَقِيَاسِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ قِيَاسٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سُمِّيَ الْعَرْشُ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ، وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ رِوَايَاتٌ فِي وَصْفِ الْعَرْشِ وَمَادَّتِهِ هِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مَرْفُوعٌ.
وَنَخْتِمُ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ بِتَحْقِيقِ مَسْأَلَتَيْنِ ذُكِرَتَا فِي تَفْسِيرِهِمَا الْمَأْثُورِ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا حَقَّقَهُمَا: (الْأَوَّلُ مَا وَرَدَ فِي كِتَابَةِ الْآيَتَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَوْنِهِمَا آخِرَ مَا نَزَلَ)
إِنَّ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي دَعْوَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute