للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَيْسَ كِتَابَ تَارِيخٍ تُدَوَّنُ فِيهِ الْقَصَصُ بِحِكَايَتِهَا كُلِّهَا كَمَا وَقَعَتْ، وَيَذْكُرُ كُلَّ مَا قِيلَ فِيهَا بِنَصِّهِ أَوْ بِتَرْجَمَتِهِ الْحَرْفِيَّةِ - وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ هِدَايَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، فَهُوَ يَذْكُرُ مِنَ الْقَصَصِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِيمَانُ، وَيَتَزَكَّى الْوِجْدَانُ، وَتَحْصُلُ الْعِبْرَةُ، وَتُؤَثِّرُ الْمَوْعِظَةُ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَكْرَارِ الْمَعَانِي مَعَ التَّفَنُّنِ فِي الْأُسْلُوبِ وَالتَّنْوِيعِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ وَفَوَاصِلِ الْآيِ، وَتَوْزِيعِ الْفَوَائِدِ وَتَفْرِيقِهَا، بِحَيْثُ يُوجَدُ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا.

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ

وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ إِيمَانِ السَّحَرَةِ كَانَ أَوَّلُ مَا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ، وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ السُّؤَالُ، مَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَمَا قَالَ؟ وَهَاكَ الْبَيَانُ: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ قَرَأَ حَفْصٌ: آمَنْتُمْ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَيُحْتَمَلُ فِيهِ تَقْدِيرُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ قِيَاسِيٌّ يَعْتَمِدُ فِي فَهْمِهِ عَلَى صِفَةِ الْأَدَاءِ، وَجَرْسِ الصَّوْتِ فِيهِ، وَبِذَلِكَ يُوَافِقُ سَائِرَ الْقُرَّاءِ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ عِنْدَهُمُ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ، أَثْبَتَ هَمْزَتَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوْحٌ، عَنْ يَعْقُوبَ، وَرُوِيَ فِي إِثْبَاتِهَا تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ بِالنُّطْقِ بِهِمَا، وَتَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وَقُرِئَ بِذَلِكَ فِي أَمْثَالِهَا، وَالْمَعْنَى أَآمَنْتُمْ بِمُوسَى أَوْ بِرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ وَآمُرَكُمْ بِذَلِكَ؟ وَفِي سُورَةِ طَهَ: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ (٢٠: ٧١) وَالضَّمِيرُ فِيهِ لِمُوسَى قَطْعًا؛ لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْإِيمَانِ بِاللَّامِ تَضْمِينٌ يُفِيدُ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ وَالْخُضُوعِ الْمَعْنِيِّ، وَآمَنْتُمْ بِهِ مُتَّبِعِينَ لَهُ إِذْعَانًا لِرِسَالَتِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ وَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ اسْتِعْمَالُ هَذَا التَّضْمِينِ فِي الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: أَنُؤْمِنُ لَبِشَرَيْنِ مِثْلَنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٢٣: ٤٧) وَقَدِ اقْتَبَسَ الْمَعَرِّي هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فِي قَوْلِهِ:

أَعُبَّادُ الْمَسِيحِ يَخَافُ صَحْبِي ... وَنَحْنُ عَبِيدُ مَنْ خَلَقَ الْمَسِيحَا

<<  <  ج: ص:  >  >>