وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (٢٦: ١١١) وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (١٧: ٩٠) وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا (١٢: ١٧) بَلْ هَذِهِ لَامُ التَّقْوِيَةِ؛ أَيْ: وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا، وَقَدْ بَيَّنَ فِرْعَوْنُ عِلَّةَ إِيمَانِهِمْ بِمَا ظَنَّهُ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَقِدَهُ قَوْمُهُ فِيهِمْ، فَقَالَ مُوَاصِلًا تَهْدِيدَهُ:
إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا أَيْ: إِنَّ هَذَا الصَّنِيعَ الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَمُوسَى وَهَارُونُ بِالتَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ لَيْسَ إِلَّا مَكْرًا مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ بِمَا أَظْهَرْتُمْ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْغَلَبِ عَلَيْهِ مَعَ إِسْرَارِ اتِّبَاعِهِ بَعْدَ ادِّعَاءِ ظُهُورِ حُجَّتِهِ زَادَ فِي سُورَةِ طَهَ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ (٢٠: ٧١) فَأَجْمَعْتُمْ كَيْدَكُمْ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَجْلِ أَنْ تُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا الْمِصْرِيِّينَ بِسِحْرِكُمْ - وَهُوَ مَا كَانَ اتَّهَمَ بِهِ مُوسَى وَحْدَهُ - وَيَكُونُ لَكُمْ فِيهَا مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا هُوَ لَنَا الْآنَ مِنَ الْمُلْكِ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ.
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ جَزَاءً عَلَى هَذَا الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: أُقْسِمُ لَأُقَطِّعَنَّ كَذَا وَكَذَا فِي عِقَابِكُمْ وَالتَّنْكِيلِ بِكُمْ، وَهُوَ قَطْعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ، كَأَنْ يَقْطَعَ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى أَوِ الْعَكْسُ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُشَوَّهَةِ لِتَكُونُوا عِبْرَةً لِمَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالْكَيْدِ لَنَا، أَوْ بِالْخُرُوجِ عَنْ سُلْطَانِنَا وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الْخُضُوعِ لِعَظَمَتِنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي الْعِقَابِ الَّذِي هَدَّدَ بِهِ الْبُغَاةَ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ كَوْنِ اتِّهَامِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ بِالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ لَهُ وَلِلْمِصْرِيِّينَ، وَبِتَوَاطُئِهِمْ مَعَ مُوسَى لِلْإِدَالَةِ مِنْهُمْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ - إِنَّمَا كَانَ تَمْوِيهًا عَلَى قَوْمِهِ الْمِصْرِيِّينَ لِئَلَّا يَتَّبِعُوا السَّحَرَةَ فِي الْإِيمَانِ، وَيَقَعَ مَا خَافَهُ وَقَدَّرَهُ، وَاتَّهَمَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهُوَ عَلَى عُتُوِّهِ عَلَى الْخَلْقِ وَعُلُوِّهِ فِي الْأَرْضِ، قَدْ خَافَ عَاقِبَةَ إِيمَانِ الشَّعْبِ، وَافْتَقَرَ عَلَى ادِّعَائِهِ الرُّبُوبِيَّةَ إِلَى إِيهَامِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَنْتَقِمُ مِنَ السَّحَرَةِ إِلَّا حُبًّا فِيهِمْ، وَدِفَاعًا عَنْهُمْ، وَاسْتِبْقَاءً لِاسْتِقْلَالِهِمْ فِي وَطَنِهِمْ، وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ كُلُّ مَلِكٍ، وَكُلُّ رَئِيسٍ مُسْتَبِدٍّ فِي شَعْبٍ يَخَافُ أَنْ يَنْتَقِضَ عَلَيْهِ بِاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِ عَلَى زَعِيمٍ آخَرَ بِدَعْوَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ سِيَاسِيَّةٍ، وَمَا مِنْ شَعْبٍ عَرَفَ نَفْسَهُ وَحُقُوقَهُ وَتَعَارَفَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى صَوْنِ هَذِهِ الْحُقُوقِ إِلَّا وَتَعَذَّرَ اسْتِبْدَادُ الْأَفْرَادِ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مُلُوكًا جَبَّارِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute