للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى وَبَيَّنَ مُقَابِلَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَهْمُ فَرِيقَانِ: (الْأَوَّلُ) الْكُفَّارُ الْمُعَانِدُونَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤: ٤٦) وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ، وَوَرَدَ فِيهِمْ آيَاتٌ سَيُذْكَرُ بَعْضُهَا هُنَا. (الثَّانِي) الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِي بَعْضِهِمْ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا (٤٧: ١٦) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ النَّارِ فِي الدُّنْيَا: وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا (٧: ١٧٩) مَعَ آيَاتٍ أُخْرَى، وَالْمُرَادُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَاعْتِبَارٍ يَتْبَعُهُ الِانْتِفَاعُ وَالْعَمَلُ.

ثُمَّ عَلَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ الدَّوَابُّ جَمْعُ دَابَّةٍ، وَهِيَ كُلُّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ فِي سُورَةِ النُّورِ: وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ (٢٤: ٤٥) الْآيَةَ، وَقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا يَغْلِبُ فِي الْحَشَرَاتِ وَدَوَابِّ الرُّكُوبِ، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَهُوَ هُنَا يُشْعِرُ بِالِاحْتِقَارِ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ شَرَّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ فِي حُكْمِ اللهِ الْحَقِّ هُمُ الْأَشْرَارُ مِنَ الْبَشَرِ " الصُّمِّ " الَّذِينَ لَا يُلْقُونَ السَّمْعَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالِاعْتِبَارِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَكَانُوا بِفَقْدِ

مَنْفَعَةِ السَّمْعِ كَالَّذِينَ فَقَدُوا حَاسَّتَهُ " الْبُكْمِ " الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ الْحَقَّ، كَأَنَّهُمْ فَقَدُوا قُوَّةَ النُّطْقِ. " الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ " أَيْ فَقَدُوا فَضِيلَةَ الْعَقْلِ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِذْ لَوْ عَقَلُوا لَطَلَبُوا، وَلَوْ طَلَبُوا لَسَمِعُوا وَمَيَّزُوا، وَلَوْ سَمِعُوا لَنَطَقُوا وَبَيَّنُوا، وَتَذَكَّرُوا وَذَكَرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٥٠: ٣٧) فَهُمْ لِفَقْدِهِمْ مَنْفَعَةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالنُّطْقِ كَالْفَاقِدِينَ لِهَذِهِ الْمَشَاعِرِ وَالْقُوَى، بِأَنْ خُلِقُوا خِدَاجًا أَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهِمْ آفَاتٌ ذَهَبَتْ بِمَشَاعِرِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، بَلْ هُمْ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَشَاعِرَ وَالْقُوَى خُلِقَتْ لَهُمْ فَأَفْسَدُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى لِأَجْلِهِ فِي سِنِّ التَّمْيِيزِ ثُمَّ التَّكْلِيفِ. فَهُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمَكْرُمَةٍ ... فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا

رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ ... فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا

وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ الْآيَةِ فَهْمًا تَفْصِيلِيًّا فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (٧: ١٧٩) وَلَمْ يَصِفْهُمْ هُنَا بِالْعَمَى كَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>